أقلام وأراء

الخميس 04 يناير 2024 9:59 صباحًا - بتوقيت القدس

أفق نهاية الحرب

لم يعد خافياً اليوم أن إسرائيل تخوض حربه الحالية مدفوعاً بالحاجة النفسية للانتقام ومداواة جرح الذات المتضخمة التي مرغها يوم 7 أكتوبر في التراب، وأن هذه الحرب الانتقامية لا تحمل الحد الأدنى من الرؤية، ولذلك تعجز عن تحقيق الحد الأدنى من الإنجاز العسكري: فهي لم تحرر أسيراً بالقوة، ولم تمس بقدرة المـ.ـقـ.ـاومة على موصلة الحرب لليوم ٨٩ على التوالي، ولم تظفر بهدف استراتيجي من المـ.ـقـ.ـاومة قائداً كان أو منظومة أنفاق أو مخزن سلاح، وهذا ما يجعلها اليوم حرب القتل لأجل القتل والتدمير لأجل التدمير.

حتى الإجرام والقتل الجماعي في الحرب يتخذ وسيلة لهدف: إبادة الفئة أو الشعب المستهدف، أو إجلائه من الجغرافيا، وعادة ما يلجأ المجرم في هذه الحالة إلى إضفاء الشرعية على جريمته من باب فعاليتها النفعية؛ أنها حققت أهدافها، فهي جريمة "مفيدة" وهذا ما يجعلها مقبولة، وهذا منطق سبق أن استخدمه الاحتلال في نكبة 1948 وفي حرب 1982، واستخدمته أمريكا في العراق وأماكن عدة من قبل، لكن معضلة الاحتلال اليوم أن جريمتهم يصعب تسويغها حتى بهذا المنطق، فهي جريمة لا تحقق أهدافها: لا تتمكن من إبادة أهل غزة أو تهجيرهم رغم امتلاكها كامل النية لذلك، وهو ما يجعلها جريمة لأجل الجريمة، جريمة فيها المواصفات الكاملة لتحميل صاحبها مسؤوليته ولتنصل شركائه منه، وهذا ما سنشهده من اليوم فصاعداً انطلاقاً من هذه الحرب.


المعضلة الأساسية التي تفسر هذا العجز عن تحقيق الأهداف النهائية رغم إلحاق ضررٍ فادح بغزة هو غياب الرؤية أمام الثبات الأسطوري للمـ.ـقـ.ـاومة وحاضنتها، فما درجت عليه إسرائيل ومن يدعمها من واشنطن والدول الغربية و الاستعمارية هو أن تنظم استخدامها لما تمتلك من فائض قوة وتكنولوجيا وعتاد في نظرية توضح الأهداف والوسائل والأدوات؛ فلا تكتفي بامتلاك أفضلية كبيرة في القوة بل تحرص على توظيفها بشكل يضمن كسر شوكة أي مـ.ـقـ.ـاومة، بينما يعجز الاحتلال اليوم حتى عن تحديد أهداف منطقية قابلة للتحقيق في الحرب؛ فقيادتهم تصر منذ بداية الحرب على أهداف إجمالية مثل: القضاء على المـ.ـقـ.ـاومة، تهجير أهل غزة، تجريد المـ.ـقـ.ـاومة من سلاحها، تحرير جميع الأسرى بالقوة، لكن الجيش في استكشافه العملي يعيد طرح أهداف مثل منطقة عازلة في غزة، واحتلال محور صلاح الدين الحدودي مع مصر...فالقيادة السياسية تنظّر للحد الأعلى فيما يبحث الجيش عن الحد الأدنى دون أفق واضح لفرضه.

أمام العجز عن تحديد الأهداف يمسي وضع الوسائل والأدوات لتحقيقها متعذراً، ويمسي الرهان على آثار القوة أقرب للمقامرة منه إلى الخطة المنظمة: ضرب الخصم بكل قوة لعله يستسلم، ومع توجيه معظم الضربات للحاضنة المدنية والعجز عن كسر شوكة المقاتل فإن المحتلين يخوضون الحرب اليوم بعقلية المقامر، الذي كلما خسر أكثر أصر على مواصلة المقامرة ليستعيد كل ما خسره إلى أن يخرج مفلساً... ولعل هذا ما يفسر اليوم احتمال المجتمع والقيادة الإسرائيلية لخسائر كانت تفوق تصورهما حتى وقت قريب.

إن صح هذا التحليل فهو يوضح لنا صورة التناقض الإسرائيلي في هذه الحرب: الإصرار على إرادة الحرب رغم عجزها عن تحقيق الأهداف، وهو يعني أن نهاية هذا الحرب يمكن أن تأتي بإحدى طريقتين: إما أن يتدخل طرف حريص على إسرائيل لترشيد سلوكهم وإقناعهم بالحد من الخسارة ووضع نهاية للحرب، وإما أنهم سيستمرون في الحرب حتى انقطاع النفَس، ونقطة نهاية الحرب حينها ستكون ببساطة العجز عن مواصلتها.

الطرف الوحيد القادر على ترشيد السلوك الإسرائيلي هو الولايات المتحدة، لكن فرص ذلك تبدو ضئيلة إذا ما نظرنا إلى استمرارها في الدعم المطلق حتى للخيارات الإسرائيلية التي لا تروق لها، وأمام تجربتها البائسة في أوكرانيا وعجزها عن تشجيع الاتفاق حين كان ممكناً، وعجزها عن منع انقلاب الحرب إلى كفة الخسارة المطلقة؛ وهذا يتركنا مع الاحتمال الثاني: العجز عن مواصلة الحرب.

العجز عن المواصلة مرتبط بمؤشرات عدة لها علاقة ببنية الجيش ومعنوياته ومعداته، واستعداد المجتمع وتماسكه، وتماسك القيادة السياسية، واستمرار الغطاء الدولين لكن لا شك أنها ليست جميعاً بنفس الأهمية، وربما يكون المؤشر المركزي من بينها هو قدرة سلاح المدرعات؛ فالجندي الإسرائيلي لا يقبل دخول غزة إلا في مركبة محصنة، وهذا ما خبِرته المـ.ـقـ.ـاومة جيداً منذ الانتفاضة الثانية ولذلك تركز حربها ضد سلاح المدرعات، لأن نهاية الحرب ستفرض عندما تنتهي قدرة سلاح المدرعات على الاقتحام البري، ولذلك أيضاً اختارت كتــائــب القســام أن تسمي قذيفة مضاد الدروع باسم قائدها المؤسس: قذيفة اليــاســين، فهي عماد الحرب وبوابة حسمها.

خسر سلاح المدرعات حتى الآن ما لا يقل عن 900 مدرعة إذا ما استثنينا سيارات الجيب والجرافات من الأرقام المعلنة للآليات التي استهدفتها المـقـاومة، وهذا رقم يساوي نصف حجم سلاح المدرعات الجاهز للقتال؛ والذي يقدره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS بنحو 1840 مدرعة، نظراً لاستثناء آلاف مدرعات الإم 113 من الحسابات بعد مجزرة ناقلات الجند في شهر 7-2004 والتي تمكنت فيها المـقـاومة من قتل 11 جندياً تحولوا إلى أشلاء داخل تلك المدرعات بقذائف دروع أحادية الرأس، ما أدى لاتخاذ القرار بمنع دخول هذه المدرعة إلى غزة والشروع بالخطط التصنيعية لناقلة النمر.
بمعايير العقل يفترض أن يكون الاحتلال قد أعلن بالفعل نهاية المعركة، لكن هذا الاندفاع النفسي للثأر ومداواة غرور القوة المتضخم يجعل التوقف أمام الخسارة المقدرة غائباً عن الحسابات، فقد كانت خسارة 50 مدرعة في معركة وادي الحجير في حرب لبنان 2006 كفيلة بإنهاء الحرب حين كان الرشد ما زال حاضراً في إدارة الحرب الإسرائيلية، أما اليوم فإن نصف سلاح المدرعات تقريباً لا يدفع لإنهاء المعركة، ما يجعلها أقرب لقتال عدو مخمور يدرك خسائره عندما يصحو من سكرته، خصوصاً وأنه ينتشي بما يجبيه من آلام ودماء وحصار الحاضنة المدنية للمـقـاومة.
في الخلاصة؛ هذه المعركة مفتوحة على معاندة إسرائيلية وأمريكية لموازين القوى، وعلى محاولة إسرائيلية لتمديد أمد الحرب عبر فتح جبهة جديدة، ومحاولة توريط الولايات المتحدة لتصبح طرفاً مباشراً في الحرب، وهو ما يفسر المبادرة الإسرائيلية للتصعيد على الجبهة اللبنانية في الأيام الماضية، والمبادرة الأمريكية بالمقابل لسحب حاملة الطائرات جيرالد فورد، لتؤكد أنها لا تريد الانجرار إلى هذه الحرب، أما الأفق الزمني المحتمل لنهاية الحرب فهو وصول سلاح المدرعات إلى عدد يعجز عن تلبية حاجات المعركة، وهي نقطة مرشحة للتحقق مع نهاية شهر 1-2024، مع احتمالية أن يُفتح قبلها نقاش حول إمداد الجيش الإسرائيلي بمدرعات ألمانية وأمريكية لعلها تطيل أمد الحرب.

رغم الألم الشديد والثمن الباهظ، فهذه حرب تتعاظم نتائجها الاستراتيجية كلما أطال الاحتلال أمدها بمعاندتهم لموازين القوى، وستفتح من بعدها بوابات شروخٍ كبرى في النظام اسياسي وفي الجماعة الاستيطانية، وهذا ما بدأه طوفان الأقصى حين انطلق من عنوان خلاف صهيوني هو الإحلال الديني في الأقصى، وعززته المحكمة العليا أمس بفتحها باب الأزمة الدستورية، ويعززها نتنياهو وحكومته بقيادتهم النفعية، وستفتح من بعدها بوابات البناء على نتيجة هذه الحرب باستئناف المعركة في الضفة الغربية وفي المسجد الأقصى المبارك.

دلالات

شارك برأيك

أفق نهاية الحرب

المزيد في أقلام وأراء

إسرائيل تحاول التنصل من جرائمها

حديث القدس

الفعل وليس القرارات ما هو مطلوب

حمادة فراعنة

حراك الجامعات في مواجهة ألة القمع الإسرائيلية

زاهي علاوي

استكشاف هندسة الأوامر: الابتكار والتطور والتأثير على المستقبل

صدقي أبو ضهير

‏ الحكومة الجديدة وأهمية دعم القطاع الزراعي

عقل أبو قرع

معاداة السامية" ... سلاح ظلم وبغي

عطية الجبارين

القادمون من السراديب والذاهبون إليها

حمدي فراج

القمة العربية ما بين الوقائع والاستحقاقات اللازمة

مروان أميل طوباسي

أمريكا وحروب الإبادة: سجل حافل بالصناعة أو التورط

صبحي حديدي

انتظروا بياناً هاماً ...!!

سمير عزت غيث

اليوم التالي ووهْم حلّ الدولتين

محمد الهندي

ألسنة اللهب ترتفع في الجنوب والشمال والدبلوماسية الدولية تكتفي بالأقوال ..!!

حديث القدس

احتجاجات الجامعات: تحولات كمية.. إلى نوعية

د. أسعد عبدالرحمن

بداية التعافي الاقتصادي في الأردن

جواد العناني

النكبة وسرديّة المخيّم الكبرى

سمير الزبن

الجامعات والإعلام ودورهما في تعزيز"الانتماءِ للقضية الفلسطينية"

تهاني اللوزي

المقاومة ونتنياهو ولعبة الوقت

بهاء رحال

القضاء على الشعب الفلسطيني

حديث القدس

النكبة مستمرة

حمادة فراعنة

"إسرائيل" عالقة بين معادلتي العجز في التقدم والعجز في التراجع

راسم عبيدات

أسعار العملات

الجمعة 17 مايو 2024 12:34 مساءً

دولار / شيكل

بيع 3.71

شراء 3.7

يورو / شيكل

بيع 4.02

شراء 4.0

دينار / شيكل

بيع 5.24

شراء 5.2

بعد سبعة أشهر، هل اقتربت إسرائيل من القضاء على حماس؟

%7

%93

(مجموع المصوتين 72)

القدس حالة الطقس