سنة كاملة مرّت على نزوح أهالي رفح، لكنها ليست كأي سنة، بل سنة من التيه والضياع، سنة من الفقد والخذلان، انقضت كدهرٍ ثقيل، كُتب علينا أن نعيش سبع محطات من النزوح والتهجير القسري، سبع جولات من الوجع المتواصل، كأننا نعيد طواف الحجيج، لا حول الكعبة، بل حول خيام اللجوء ومراكز الإيواء التي لم تواسِ أحداً ولم تخفف ألماً، ولم تحجب قهراً. سبع أشواط من السعي لا بين الصفا والمروة، وإنما بين المهمّات اليومية، ما بين زحمة التِكيات وسيارات المياه وصراع البقاء. منّا من نزح مرة أو اثنتين، ومنّا من تجاوز العشر مرات، وأنا من أولئك الذين رافقهم النزوح سبع مرات كاملة، كأن التهجير كُتب علينا قَدَراً. لم يستقر لنا مقام، ولا طاب لنا مُقام، فكلما حاولنا بناء ظلٍّ من أمان، باغتنا أمرُ إخلاء جديد، وكأنّ هناك من لا همّ له سوى العبث بحياتنا، والتلذذ بعذاباتنا، ونحن نُساق من وجعٍ إلى آخر، ومن حلمٍ إلى سراب.
لك أن تتخيل مشاهد النزوح، سيما الذي يأتي بعد منتصف الليل، في لحظة يتحول فيها السكون إلى جحيم مشتعل. على وقع قذائف الدبابات، وزخات الرصاص من الزوارق الحربية، وتحليق طائرات الأباتشي والمسيرات المُسلحة، التي ترصد الأجساد بحرارة أجسادهم، وتلاحقهم كأنها تطارد بقايا الحياة. الناس يتدافعون على الطريق كأنهم في سباق مع الموت. سار البعض بأقدامهم المثقلة بالخوف، يحملون ما استطاعوا من متاع فوق ظهورهم، وأطفالهم على أكتافهم، بينما حالف الحظ آخرين فاستطاعوا اللجوء إلى سيارة مرسيدس متهالكة تسير بزيت سيرج الطعام كان صاحبها قد استخدم بطاريتها لإضاءة مكان إيوائه ويشحن بها جواله، ومنهم من بالكاد وجد توك توك يئن تحت وطأة الطريق، أو حتى عربة خشبية يجرها حمار يلهث من الإرهاق ومن قلة الطعام. جميعهم كانوا يتجهون صوب طريق الخلاص الموهوم. والطريق ذاته أصبح ساحة حرب يتساقط عليه الرعب من السماء، كأنها حجارة من سجيل تطبق على الأرض، فتنفجر النيران وتتطاير الشظايا، وتحفر الحفر، وتبعثر بقايا الأمل على الإسفلت الملتهب.
في تلك اللحظات، يتجلى الألم في صورته الأشد: خوف، وعجز، وكرامة إنسانية تُسحق تحت وطأة القصف والتجاهل. هذا ليس مجرد نزوح، بل فصل مأساوي من كتاب الجحيم الذي يُكتب بدماء الأبرياء من أهالي رفح. منّا من ترك خيمته، ومنّا من غادر منزلًا بالكاد استأجره، سنةٌ مرّت كأنها حلمٌ داهمته الفجيعة، فاختنق في صدره قبل أن يكتمل. وكلما اعتقدنا أننا بلغنا ملاذاً آمناً، عدنا نغادره مجدداً، نكرر ذات السعي، ولكن ليس بين الصفا والمروة، بل بين الألم والرجاء. سنة مضت وأهالي رفح يرزحون في مخيمات النزوح، يكابدون كل صنوف العذاب بصبرٍ يشقُّ الصخر. بين زمهرير البرد القارس بليلٍ يلسع العظام، وقيظ نهارٍ لا يرحم، فلا سقف يحجب المطر، ولا جدار يصدّ ريح الخوف، فهذا حالنا وهذا واقعنا ومعاناتنا. لا نبالغ ولا نرسم مشهداً من خيال. ضيقٌ في العيش، وشحٌ في الزاد، وظمأ لا ترويه قطرة، وألمٌ يتضاعف مع تفشّي الأمراض التي لا دواء لها، والأوبئة التي لا ملجأ منها. حتى الذباب والبعوض صار شريكاً دائماً في معاناتنا، لا يفارق خيامنا، ولا يستأذن حين ينهش أجساد أطفالنا، أو حين يفترش أرض خيامنا، وكأنه وجد فينا وليمةً لا تنتهي. ونحن لا طعام يكفينا، ولا ماء يروينا، ولا مأوى يحمينا، فقط الذباب والبعوض يقتسم معنا كل شيء، إلا الألم… فهو لنا وحدنا.
في رحلة النزوح، لم يبقَ من مظاهر الحياة سوى صبر الأمهات والزوجات. فنساء رفح أبدعن في تحويل الألم إلى لونٍ من الحياة، ينسجن من الدخان لون الحياة، ومن رماد الأفران وسواد مواقد النيران عطر الصبر. أصابعهن، التي كانت يوماً تتلألأ بالخواتم، باتت مسوّدة من لهيب الطهي فوق الحطب. وأكثرهن حظاً تلك التي ينوب زوجها أو ابنها عنها في مواجهة النار. بينما تكتفي هي بغسل الطناجر التي تراكمت عليها طبقات السواد، حتى غدت الأصابع كأنها رؤوس المسامير، أو حواف "مصاميع" الأفران، يلفها السواد من كل جهة، وتفوح منها رائحة الدخان، لا عطراً مختاراً، بل قدَراً مفروضاً، يشهد على تحول الرفاه إلى كفاح من أجل البقاء. أما أظافرهن، التي كانت تزيّنها المناكير وتُلفّ بعناية، فقد صارت كالسكاكين المثلمة، محشوة بطبقاتٍ من سواد عيدان النار المحترقة، شاهدة على أن الجمال حين يُغتصب، لا يُبقي إلا صلابة القلب وجلد الأرواح.
سنة كاملة مرّت وكأنها دهرٌ من الانكسار، حملت معها وجع الغياب وتشرذم الأحلام، سنة لم نعد فيها نميّز بين الليل والنهار، سنة من الانقطاع عن الأحبة الذين غيّبتهم الحرب أو فرّقتهم النزوحات، سنةٌ أثقلت فيها الوحشة القلوب حتى غلظت، لا قسوةً، بل من فرط ما أنهكها التعب. سنة غاب فيها الأمان، وفجع فيها الإنسان. سنة نعيش فيها الأمل، لا لأنه موجود، بل لأننا بدونه نموت أكثر من مرة.
سنة لم نعد نعرف أي الطرق تؤدي إلى الحياة. كل ما نملكه هو صبرٌ مُعجون بالألم، سنة ما بين مشاهد وحقائق، وإيمانٌ بأن هذا العذاب قد يكون شفيعاً لنا في يوم نُبعث فيه من هذا القهر، لا من القبور.
رفح يا وجع الوجع، يا بوابة الجنوب يا حانية على أبنائك يا راضية يا مرضية، أنتِ لا تَطُلبين الكثير، فقط أن يراك المفاوض الفلسطيني بالعين الملأى وأن تكوني على سلم الأولويات، وأن يراكِ العالم بعين الحقيقة، لا بعدسات المصالح. أن يسمع صراخ أطفالك، أن يشعر بجوع نسائك وظمأ رجالك، أن يتذوق مرارة التشريد الذي يعيشه أهالي رفح، ولتذكير هذا العالم أنها ما زالت تنزف. فيا رب، لا نملك سوى الصبر الذي تُعيننا عليه والدعاء الذي تُلهِمنا إياه، فارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وكن معنا حيث لا يكون أحد. كن لنا ملاذاً حين ضاقت بنا الأوطان… ونوراً حين عمّ هذا الليل الطويل.
شارك برأيك
رفح.. سنة في درب المعاناة وسبع محطات من الصبر الجميل المقدّس