بعد مرور أكثر من خمسين يوما على السابع من أكتوبر، وبعد استشهاد أكثر من عشرين ألفا من المدنيين الفلسطينيين، وبعد تهجير مليون مواطن فلسطيني مسالم، وبعد هدم وتخريب البنية التحتية في قطاع غزة، وبعد هدم المساجد والكنائس والمستشفيات في القطاع، وبعد تشريد عشرات الألوف من الساكنين الآمنين وضرب ملاجئهم في المدارس، لم يحقق الكيان أيا من أهدافه التي تعهد بتحقيقها رغم هذه الدماء التي سالت والبناء الذي تهدم والخراب الذي تحقق، فالهمة والإرادة ما زالت عالية.
رغم كل ذلك إلا أن صوت العقل والحكمة والرصانة والموضوعية غائب ومغيب في القيادة السياسية الإسرائيلية وحتى الغربية، التي تتصرف بشكل شخصي وتدفع الأمور نحو الشخصنة. فنتنياهو يدافع عن مستقبله السياسي وخشيته الكبيرة من محاكمات جنائية قادمة وادة محلية وأخرى دولية، ومن فقده مركز القيادة في حزب الليكود وتنحيته، وسقوط حزبه في أية انتخابات قادمة وحصوله على نصف المقاعد الحالية وفق استطلاعات الرأي . لذلك تراه صباح مساء يكرر إسطوانته المشروخة التي تكررها القيادة الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر المتمثلة بتدمير حركة حماس وعودة جميع الأسرى الإسرائيليين. وكذلك بايدن تابعه طمعا في إعادة انتخابه لجولة ثانية.
يتابع نتنياهو في هذا التطرف الدموي أعضاء حكومته من أقصى اليمين كسموتريتش وبن غفير والليكوديين مثل غالانت ، والمتدينين أمثال أرييه درعي . وحتى من تسمي نفسها المعارضة كلبيد وبني جانتس تابعت نتنياهو في مطالبه المتطرفة، كل لتحقيق هدف انتخابي ونصر شخصي من خلال الوغول بالدم الفلسطيني . فجميع الأحزاب الصهيونية والمجتمع الإسرائيلي انقاد وراء أهداف صدقها وكررها كالببغاء، وتخيل تحقيقها، بينما تكشف الأيام والحقيقة والوقائع، أنها أبعد ما تكون عن التحقيق.
لقد راهن هؤلاء جميعا، على الهدن المستمرة من أيام، أن تكشف ثغرة هنا أو هناك يدخلون منها بدل أن يكون رهانهم على البعد الإنساني ، فإذا بهم يتفاجؤون أن هذه الهدن عكست توقعاتهم الأمنية، حيث أرخت بذيول إيجابية، وبخاصة تجاه المعاملة الإنسانية التي قدمتها الفصائل للمحتجزين من النساء والأطفال. حتى ان المراسلين العسكريين أقروا بتلك المعاملة الإنسانية، ولم يستطيعوا التهرب من هذه المواقف والتجني عليها وعلى دحضها.وليومنا هذا لم تستضف وسائل الإعلام الإسرائيلية واحدا أو واحدة من المحتجزين الإسرائيليين، الذين كانوا بيد المقاومة، خوفا من أن يقولوا الحقيقة المرة، وخوفا من تجارب سابقة مثل تصريحات المسنة يوخباد ليفشيستس، وتجنبا لرسائل مستقبلية مثل رسالة دانييل ألوني.
مما زاد الطين بلّة على الجانب الإسرائيلي، ضمور الإندفاع الفوري المؤيد للرواية الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر، بل على العكس من ذلك، ازدياد عنفوان التأييد للرواية الفلسطينية في أماكن كانت تعتبر من معاقل الرواية الإسرائيلية كلندن وواشنطن ونيويورك وباريس. فقد ملأت المظاهرات المستمرة المؤيدة للجانب الفلسطيني تلك الأماكن بشكل غير متصور وغير منقطع وغير متوقع، بحيث ملأت الصور واليفط والبوسترات الميادين والشوارع ووسائل التواصل الإجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة من مقروءة ومسموعة ومرئية رغم بقاء جزئي للرواية الإسرائيلية.
رغم استمرار تأييد المأفون جو بايدن وسريته الصهيونية بقيادة اليهودي الصهيوني بلينكين في تأييد أعمى لسياسة الكيان وهجمته على القطاع، إلا أن أمريكا بمؤسساتها ، وجدت نفسها مجبرة تحت الضغط الداخلي بانقساماته وتعدداته في البيت الأبيض ووزارة الخارجية وحتى الكونجرس، بأن تؤيد الهدن المستمرة بل واستمرارها والسعي لتجديدها، والسعي الجاد لإدخال المؤن والنفط والدواء والغذاء، ودعوة الجانب الإسرائيلي لتقليل الخسائر المدنية والأضرار المدنية. بل وصل الأمر إلى الجانب الشخصي لجو بايدن، بحيث غدا ما يجري في قطاع غزة مؤثرا بشكل مباشر على إمكانية إعادة انتخابه لجولة ثانية. فهو يلاحظ إمكانية تشقق البيت الأبيض ذاته والحزب الديموقراطي وتبعثره، رغم أنه تاريخيا نصير قوي للكيان ويصوت معظم اليهود له. بل امتد هذا الأمر لجامعات ومؤسسات أمريكية وصحف وتلفزة لأول مرة على صعيد القضية الفلسطينية.
ما يجري على الساحة الأوروبية وعلى ساحة الإتحاد الأوروبي من بعض الدول من نفي للرواية الإسرائيلية وتجريحها ومناصرة القضية الفلسطينية بقوة، ودعوة للإعتراف بالدولة الفلسطينية والحقوق الوطنية التاريخية الفلسطينية، عدم المساس بالمدنيين والتوقف عن قصفهم والإضرار بهم، ومقاطعة المدن ومؤسسات أوروبية لبلديات وسياسات الكيان، وبخاصة في بلجيكا وإسبانيا ولوكسمبورغ وإيرلنداوسكوتلندا والسويد والنرويج ، وعلى استحياء في بريطانيا وفرنسا أمر ينبىء بتغيير سياسي عميق يحدث لأول مرة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى الإنجاز الأكبر وخطره ما زال ماثلا، وفشل الكابوس السياسي الإسرائيلي الأمريكي العربي على استحياء ، ألا وهو فشل السيناريو الشيطاني الذي كان مختبئا في جارور نتنياهو وبايدن وبلينكين القاضي بتهجير ونفي مواطني قطاع غزة إلى صحراء سيناء، بصحوة الغزاويين وقيادتهم، وبمعارضة مصر وقيادتها واعتبار كابوس التهجير لفلسطينيي القطاع ضربة قاسمة للأمن القومي المصري بحيث وقفت ضده بكل قوة . وشاركت في هذا الموقف الأردن برفض أية خطوة تهجير مماثلة محتملة تجري في الضفة الغربية شرقا نحو الأردن.
ولعل الأهم من كل تلك الأمور رغم أهميتها المتراكمة والمجتمعة، ذلك الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في القطاع، وعدم استطاعة الجيش الإسرائيلي تحقيق أي من أهدافه رغم مرور أكثر من سبعة أسابيع على حملته الدموية التي خرق بها كل قواعد القانون الدولي الإنساني المكتوب والعرفي ، ومواثيق جنيف ولاهاي لعامي 1907 و1949، التي قامت لحماية المدنيين وقت الحرب والنزاع المسلح، بل داسها بأقدام دباباته وقذفها بقذائف وصواريخ طائراته ومدفعيته بحيث ثبت الكيل بمكيالين بدون أدنى شك. ولا شك في أن ضخامة خسائره تلقي بطلالها على تحركاته المستقبلية رغم أن تصريحاته لا تعكس ذلك.
بعد كل ذلك، يجب أن يسأل الأمريكيون أنفسهم وغيرهم من داعمي الكيان، وماذا بعد، وهم قد بدأوا بالتململ وبدأوا بتوجيه السؤال المزعج لسياسيي الكيان، وما زال الإسرائيليون يتجنبون الإجابة ويؤجلونها ويتهربون منها. هؤلاء الداعمون والمناصرون للكيان لا يستطيعون البقاء متفرجين في ظل ضغط الرأي العام والشارع، فهم يرون أن هذه الحرب لن تقود لشيء بل لمزيد من الخراب والقتل والمعاناة وبخاصة بعد الهدوء النسبي الذي ساد استمرار الهدن لأربعة أيام والمتوقع أن يستمر لأسبوع على أقل تقدير. وهم يرون أن نتنياهو بعجرفته وبشخصنته واستعلائه سيعرض المنطقة لأخطار كبيرة. وقد تركوا له الحبل على الغارب لأسابيع طويلة، ولن يستطيعوا الإستمرار في تلك الفسحة الزمانية، بل إن وزير خارجيته اشار لمدة أسبوعين لانتهاء العملية الحربية، وبعدها سيضيق الخناق. لكنه ما زال يناور ويرفض أملا في تحقيق ما يصبو إليه من أهداف ولو جزئيا.
في ظل كل تلك المعطيات والمتغيرات، ومن واقع الأسى والمرارة للمدنيين الفلسطينيين، يجب أن ينصب الجهد الدبلوماسي الدولي على كيفية إنزال نتنياهو والقيادة السياسية الإسرائيلية عن الشجرة العالية التي ارتقوها، هربا من مواجهة النتائج وما زالوا معلقين عليها، والتفكير بماهية الخطوات الصغيرة التي تكفل إنزالهم عن أحلامهم غير القابلة للتحقق بل المستحيلة. وبأن حربهم قد تطول باعتراف قيادتهم وأن هذا الأمر قد يطول لأشهر أو سنة أو أكثر.
ولعل اقتراح البدء في محادثات شاملة لعملية التبادل بحيث تشمل العسكريين الأسرى، والزيارات والوساطات التي تجوب المنطقة لكيفية إنزال القيادة السياسية الإسرائيلية عن الشجرة، إذ أن ما جرى هو مجرد خطوات صغيرة، والمتبادلون كانوا أطفالا أو نساء وليسوا بعسكريين. فإذا جرى مثل ذلك الحديث، فحتما سيفتح آفاقا جديدة ومنظورا متطورا ومشاركة دولية مؤثرة لحل سياسي شامل بخطوات مرحلية متدرجة خلال فترة زمنية معينة يرافقها تدرج في تبادل الأسرى من الجانبين وفق معايير محددة، فإرادة النجاح مهمة بعد التوكل على الله، ولكن الأهم منها إرادة التحضير للنجاح والمثابرة على تخطي كل العراقيل فثمرة النجاح تأتي من الصبر الطويل!!!
أقلام وأراء
الخميس 30 نوفمبر 2023 10:18 صباحًا - بتوقيت القدس
من ينزل نتنياهو عن الشجرة وكيف؟!

دلالات
المزيد في أقلام وأراء
هذا هو الفرق بيننا وبينهم
من الدولة المدللة.. إلى المنبوذة
سلاح التظاهرات دعماً لفلسطين
مواقف دولية وتصريحات واعدة
قطع الرواتب.. دعوة لإعادة النظر !
الفرصة الأوروبية.. كيف نبني على التحولات الشعبية والسياسية في الغرب؟
الرأي القانوني في قرار الكابينيت الأخير منع عملية تسوية الأراضي في مناطق C وإلغاء إجراءات...
على هذه الأرض ما يستحق البقاء
مصطفى إبراهيم
المساعدات والمفاوضات والتهديدات
بهاء رحال
صحوةٌ بعد طول غفوة !
إبراهيم ملحم
فلسطين فرصة اقتصادية تنتظر التفعيل العربي
إن لم تكن شريكاً في الطبخة فأنت الوجبة!
إبراهيم ملحم
تطورات سياسية غير مسبوقة
حمادة فراعنة
حين تتحول الساحات إلى منصات للنضال الثقافي// من أوسلو إلى "فدائي" النشيد الوطني الفلسطيني...
توفيق العيسى
زيارة ترامب ومستقبل القضية الفلسطينية
جمال زقوت
من عامود السحاب الى عربات جدعون... الطريق غير سالك
حمدي فراج
المسارات الخاطئة.. طغيان الوسائل على الأهداف
جيمس زغبي
بين خيمة وخيمة
بهاء رحال
بين غزة وطروادة
نبهان خريشه
البنود النهائية لصفقة التبادل والتهدئة والساعات الحاسمة
حمزة البشتاوي
الأكثر تعليقاً
محدث:: دخول أول شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة منذ شهرين

حماس: إسرائيل تضلل العالم بادعاء إدخال مساعدات لغزة

الاحتلال الإسرائيلي: 100 شاحنة مساعدات للأمم المتحدة دخلت إلى غزة

تضارب الروايات حول دخول مساعدات إلى غزة لأول مرة منذ مارس

الرئيس عباس يدعو دول العالم لكسر الحصار وإيصال المساعدات لغزة

هل ستفضي هذه الجهود الدبلوماسية المكثفة إلى هدنة حقيقية تنقذ ما تبقى من غزة؟

87 شهيداً و290 جريحاً خلال 24 ساعة بغزة

الأكثر قراءة
أهم تدخلات وزارة المواصلات خلال العام الأول من تولي حكومة مصطفى مهامها

79 شهيدا بغزة وأنباء عن انهيار مبنى على قوة إسرائيلية

الرئيس عباس يدعو دول العالم لكسر الحصار وإيصال المساعدات لغزة

شهيدان ومصابون في قصف للاحتلال غرب دير البلح

رئيس وزراء إسبانيا يدعو لاستبعاد إسرائيل من "يوروفيجن"

قصف إسرائيلي يستهدف مركبة في عين بعال جنوبي لبنان

هجوم روسي يقتل 6 جنود أوكرانيين وسط حراك دولي لإنهاء الحرب

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%56
%44
(مجموع المصوتين 1259)
شارك برأيك
من ينزل نتنياهو عن الشجرة وكيف؟!