أقلام وأراء

الخميس 09 فبراير 2023 10:43 صباحًا - بتوقيت القدس

الوصاية الهاشمية على المقدسات

بقلم الباحث المقدسي: فــوّاز إبراهيــم نــزار عطيّــة

استهل مقالتي بقوله تعالى: "قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ". سورة البقرة أية 144.


المُتفكر في هذه الآية يجد البعد الاستراتيجي فائقا ومعبرا عن الأحداث التي ستؤول إليها بيت المقدس بعد ذلك التحويل، وخصوصا بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، على أساس أن النظرة المستقبلية على جميع الأصعدة والمستويات ستكون بعد تحويل القبلة من القدس إلى مكة المكرمة، أساس الاستعداد لمرحلة الصراع بين الحق والباطل دون كلل أو ملل، فلو شاء الله أن تستقر حالة الأمة دون اضطراب تعيشه بين فترة وأخرى، لما كتب الله في لوحه المحفوظ معيارا في التمييز بين الخبيث والطيب وبين الصادق والكاذب المنافق.


الأمر الذي جعل الله من هذا تحويل في استقبال القبلة من القدس إلى مكة، بُعدا استراتيجيا لربط البلدين إلى يوم البعث ببعد ديني وتاريخي، على أساس تثبيت صحة قوله تعالى في جعل أمة محمد أمة وسطية لتكون شهيدة على باقي الأمم، وليكون رسول الله شهيدا علينا.


من هذا المنطلق، نجد أن القدس الشريف لم تكن في يوم من الأيام عاصمة لأية خلافة إسلامية، وانما كانت محل اهتمام لجميع الخلفاء من بعد رسول الله حتى تاريخ اليوم من منظور ديني فقط، بحيث أقاموا بعض القصور والمقرات لهم في القدس وأكنافها، لتكون إقامتهم مؤقتة أثناء زيارتهم للمدينة المقدسة، لكنهم لم يتخذوها كعاصمة سياسية، واعتقد أن سبب ذلك ببساطة حتى لا يتم تغيير قواعد أرسيت في كتاب الله عزوجل، بعد تحويل استقبال القبلة من بيت المقدس إلى مكة، وكي لا تدخل الأمة في صراع وتحد مع ما ورد في كتاب الله المُحكم التنزيل.


لذلك كانت القدس ومازالت، محل اهتمام من جميع من تسلم زمام قيادة الأمة الإسلامية في مختلف العصور منذ 1450 عاما حتى هذه اللحظة، وخير دليل على ذلك آثار العمارة الإسلامية في المدينة المقدسة شاهدة على شموخها وجمال زخرفتها، فضلا عن استمرار رباط من دخلها واتخذها مقر إقامة منذ البعثة المحمدية حتى اليوم، جعلها في نفسية من كل دخلها أساسا لتكون دار مقر في الدنيا، فتسابق أولي الأمر في نيل شرف الرعاية والسدانة لبيت المقدس وأهلها، إلى أن وصلت بيد العائلة الهاشمية منذ قرن من الزمان.


لقد كان الاهتمام الهاشمي لمكانة القدس الدينية منذ قرن تقريبا، باعثا ومحفزا لرعاية المقدسات الإسلامية كمكانة من أجل توحيد الأمة، وبعد تغيير قواعد القانون الدولي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، أصبحت مدينة القدس في وضع قانوني خاص، استنادا إلى القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، وأبرزها القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.


وبعد أن وقعت المدينة المقدسة تحت الاحتلال الإسرائيلي، صدرت العديد من قرارات مجلس الأمن الدولي ودعت إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها بما فيها القدس، منها على سبيل المثال القرار 242، وما تلاه من قرارات أبرزها 252 و267 و446 و2334 وغيرها من القرارات، كما اعتبرت تلك القرارات بطلان الإجراءات الإسرائيلية الأحادية في الأراضي المحتلة ومن بينها القدس، بما في ذلك إقامة المستوطنات وتغيير وضع مدينة القدس وطابعها، الامر الذي ساهمت تلك القرارات في أن يكون الموقف الأردني الثابت من أن القدس كأرض محتلة، ومعززا للوصاية الهاشمية على مقدساتها الإسلامية والمسيحية، يتولّاها ملك المملكة الأردنية الهاشمية، بصفته المسؤول عن حماية المقدسات فيها، مسؤوليةٌ دولية وفقا لالتزامات الدول وفق القانون الدولي والقرارات الدولية.


وتأكيدا على ذلك، قام الملك قبل أسبوع وأثناء حديثه مع الإدارة الأمريكية بعرض تفصيلي لدوره كمسؤول عن تلك المقدسات، مشددا على أنها مسؤولية دينية وتاريخية محمية بالشرعية الدولية، محذرا سلطات الاحتلال العبث في الوضع القائم "الستاتيكو"، ومؤكدا بأنها أرض فلسطينية يجب أن تعود للفلسطينيين وبأنها عاصمة الدولة الفلسطينية، وأن قرار ضمها من الجانب الإسرائيلي باطل بطلانا مطلقا.


من هذا المنطلق، يستدعي بعجالة استعراض أهمية القدس للعائلة الهاشمية ودورها الريادي كوصية على المقدسات فيها، بحيث صدر في العام 1954 قانون بموجبه تم تشكيل لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبّة الصخرة المشرّفة، لتتخذ رعايةُ المقدسات صفةَ الثبات والدوام والاستمرارية، وفي العام 1956 بدأ فيه الإعمار الهاشميّ الثاني واستمر حتى عام 1964 متضمنا: تجديد عمارة قبة الصخرة المشرفة، وتجديد عمارة الجامع القبلي من المسجد الأقصى، وتركيب قبة خارجية من الألمنيوم ذهبي اللون، وتركيب رخام للجدران الداخلية والخارجية وإعادة ترميم الفسيفساء فيها، وترميم البلاط القيشاني الخارجي وزخرفته بآيات قرآنية من سورتَي "يس" و"الإسراء".


وبعد تعرض المسجد القبلي من المسجد الأقصى للحريق المتعمّد في 21 آب 1969، أصدر المرحوم الملك الحسين توجيهاته إلى اللجنة لتتولّى مسؤولياتها التاريخية والقانونية، فبدأت عمليات الإعمار الهاشمي الذي استمر إلى عام 1994، وتم إجراء الدراسات والمخططات اللازمة للعمل، وإنشاء شبكة كاملة للإطفاء بالمياه، وإنشاء شبكة إنارة أمنية للمحافظة على الحرم الشريف.


كما قامت لجنة الاعمار برعاية الملك حسين رحمه الله، بتشييد الجزء الجنوبي الشرقي للمسجد القبلي وأعيد بناؤه، ومرحلة الأعمال التكميلية والزخرفة، ونُفِّذت أعمال لتجديد وترميم وصنع شبابيك جصّية في جميع فتحات المسجد، بلغ عددها حوالي مائتي شباك، وكذلك تبليط وترميم جامع عمر ومحراب زكريا ومقام الأربعين، ورُممت المصاطب والقباب، ومن أبرزها: قبة السلسلة، والمحاريب، والسبل وفي مقدمتها سبيل قايتباي. كما رُمِّم المتحف الإسلامي، وضريح الشريف الحسين بن علي، وجامع المدرسة الأرغونية، والرواق الغربي، بالإضافة إلى السجاد في المسجدين.


وفي العام 1992 وجّه المرحوم الملك الحسين رسالة إلى رئيس لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرّفة، باستكمال الدراسات وطرح العطاءات المتعلّقة بعملية إعادة ترميم وإعمار قبة الصخرة المشرفة لتكون عملية الاعمار والترميم على نفقته الخاصة، كما وجّه المرحوم الملك الحسين رئيس الحكومة آنذاك، بأن تتخذ لجنة إعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرّفة الخطواتِ الكفيلة لإعادة صنع منبر صلاح الدين الأيوبي، وأن تحشد المهندسين المحتسبين والفنيين البارعين كي يعود المنبر كما كان وعلى صورته الحقيقية المتميزة ببالغ الحسن والدقة والإتقان في مكانه من المسجد الأقصى المبارك.


وقد تحقّق هذا الحلم في عهد الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، فتم إنجاز المنبر في جامعة البلقاء التطبيقية، وأُرسل للقدس في 23/1/2007 وتم تركيبه في مكانه بالمسجد الأقصى.


ومنذ استلام الملك عبد الله الثاني عام 1999 سلطاته الدستورية، واصل السير على خطى الآباء والاجداد في حماية المقدسات، فالمشاريع التي قام بها من أجل حماية المقدسات كوصي عليها كثيرة، إذ وجّه حكوماته المتعاقبة على إعادة تصنيع منبر صلاح الدين الأيوبي كما كان، وترميم الحائطَين الشرقي والجنوبي للمسجد الأقصى، وترميم فسيفساء قبة الصخرة المشرفة من الداخل، وكسوة المسجدَين القبلي والمرواني بالسجاد، وتركيب نظام إنذار وإطفاء الحرائق في الحرم الشريف، وترميم كنيسة القيامة بتبرع من ماله الخاص.


وتأكيدا على دور الوصاية على المقدسات، صدر قانون الصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة رقم (15) لسنة 2007، الذي يهدف إلى توفير التمويل اللازم لرعاية كاملة للمسجد الأقصى المبارك بما في ذلك قبة الصخرة المشرفة والمسجد القبلي وباقي المقدسات الإسلامية في القدس.


وما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام، وحين أُعلن قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية في عام 1988، استثنى القرار مدينةَ القدس كي لا تقع في الفراغ أو يتسلّل لها الاحتلال، فواصلت المملكة وقيادتها الهاشمية رعاية مقدسات المدينة، وكنتيجة لدور الاحتلال في التلاعب بالمصطلحات القانونية ومحاولته تغيير الوضع القائم على المقدسات في القدس الشريف، وعلى وجه التحديد في 31/3/2013 وقع السيد الرئيس محمود عباس رئيس دولة فلسطين مع جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، اتفاقا تاريخيا في عمّان أُعيد التأكيد فيه على الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة، وأن جلالة الملك هو صاحب الوصاية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس.
وتقوم المملكة بإجراءات متنوعة لحماية المقدسات والوقفيات، وتعزيز صمود المقدسيين في أرضهم ودعمهم وإسنادهم، من خلال دائرة أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى المبارك، التي تتبع وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردنية، إذ أن هذه الدائرة هي السلطة الحصرية، بموجب القانون الدولي الإنساني، المخوّلة بالإشراف على شؤون المسجد الأقصى المبارك الحرم القدسي الشريف، بوصفها آخر سلطة دينية إدارية كانت تشرف على الحرم الشريف قبل وقوعه تحت الاحتلال.
ولما كانت دائرة الأوقاف تشرف اشرافا مباشرا على جميع الموظفين التابعين لها، وعلى المساجد في القدس وأوقافها الذّرية والخيرية وعلى المدارس الدينية التابعة لها وعلى لجان الزكاة، فإن الاعمال التي أنجزت خلال العقد الأخير دليل قاطع ثابت بأن ما تقوم به الدائرة وبتوجيهات ملكية، هدفه المحافظة على ديمومة رباط أهل القدس وممتلكات الآباء والأجداد على مر العصور، سواء أكانت ملكيات خاصة أو أوقاف أوقفها أصحابها على جهة خيرية أو على ذُريتهم، فالمسيرة وإن كانت شاقة لكن بالصبر والثبات والعمل المخلص، سيكون الدور المنوط لهذه الدائرة، رياديا في ظل أمر التسوية الذي صدر عن دائرة أراضي الاحتلال، قبل بضع سنين من أجل الحفاظ على مكتسبات الأمة، ولتكون تلك الدائرة الصمام الأمان لأهل القدس في استرداد والحفاظ على الأوقاف الخيرية والذُرية في القدس الشريف ومحيطها من الأحياء العربية، باعتبار تلك الأوقاف العامرة التي تقدر بأكثر من 1800 وقفية بين وقف خيري وذُري من ضمن وصاية ورعاية الملك.
منوها في هذا المقام، أن من أولى أوليات تلك الدائرة حصر تلك العقارات وتحديد مناطقها الجغرافية في القدس الشريف، والعمل على استعادة كل أرض تتبع الوصاية الهاشمية في مختلف تخوم وحدود وصاية الملك، على سبيل المثال وليس الحصر استعادة المئات من الدونمات التي تعود لوقف الشيخ محمد بن محمد الخليلي - التي تنتسب إليه عائلة صب لبن المقدسية - من أراضي بيت حنينا التي تقام عليها مستوطنة النبي يعقوب، والتي وقعت على تلك الأرض أحداث دامية قبل أسبوعين، أدت إلى مقتل عدد من المستوطنين، فضلا عن مطالبة كل من يستعمل أرضا تتبع الوقف الخيري بأحكارها سواء التي كانت داخل البلدة القديمة من القدس الشريف أو في محيطها، وإعادة فتح المساجد التي أغلقتها سلطات الاحتلال وعمارتها، ليتمكن أهل القدس من مواصلة أداء الصلاة فيها في مختلف حارات البلدة القديمة، ولمطالبة كل من يشغل عقارا في القدس بالأجرة الشرعية ولو كانت رمزية من قبيل الحفاظ على مقدرات الأمة في ظل أمر التسوية المذكور.


في الختام، المُطلع على دور الوصاية الهاشمية في ظل تفشي التطرف والعنصرية في حكومة الاحتلال، يجد أن لتلك الوصاية بُعد استراتيجي مكّن أهل القدس التمسك بها بموجب القانون الدولي والإنساني، بالنظر إلى الدور الإيجابي المقدم على مرّ عقود طويلة من العائلة الهاشمية، من أجل الحفاظ على القدس وأهلها، ناهيك عن الدور التاريخي في اثبات الرواية العربية بأن القدس بعمارتها وحجم أوقافها الخيرية والذُرية منذ 1400 عام ويزيد، تنبئ على أنها مدينة عامرة بأهلها وعمارتها، وهي سلسلة من حضارات عربية وإسلامية متصلة بحضارة عرب الكنعانيين قبل 5000 عام.

دلالات

شارك برأيك

الوصاية الهاشمية على المقدسات

المزيد في أقلام وأراء

نتانياهو اصطاد العصافير دون النزول عن الشجرة

حديث القدس

القبول الفلسطيني والرفض الإسرائيلي

حمادة فراعنة

إطار للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط

جيمس زغبي

رفح آخر ورقة في يد نتنياهو

بهاء رحال

سامحني أبو كرمل.. أنا لم ولن انساك

خالد جميل مسمار

حرب ظالمة وخاسرة

سعيد زيداني

أن تصبح إسرائيل تاريخًا

فهمي هويدي

أمنوا بالنصر فحققوه ..

يونس العموري

التطبيع.. الدولة العربية، جدلية "المصلحة" والثقافة

إياد البرغوثي

كابينيت الحرب يقرر مواصلة الحرب

حديث القدس

الإصرار الأميركي نحو فلسطين

حمادة فراعنة

من "اجتثاث حماس" الى "الهزيمة النكراء" .. الصفقة خشبة خلاص لإسرائيل

حمدي فراج

زمن عبد الناصر

سمير عزت غيث

الأسير باسم خندقجي بروايته طائرة مسيّرة تخترق القبة الحديدية

وليد الهودلي

مرحى بالصغيرة التي أشعلت هذه الحرب الكبيرة

مروان الغفوري

متى تضع أمريكا خطًّا أحمر؟

سماح خليفة

بين انتفاضة الجامعات الأميركية والجامعات العربية

عبد الله معروف

انتفاضة الجامعات ضد حرب الابادة.. هل تنجح في احياء الوعي بقيم العدالة ؟

جمال زقوت

ما أفهمه

غيرشون باسكن

من الاخر ...ماذا وراء الرصيف العائم في غزة ؟!

د.أحمد رفيق عوض.. رئيس مركز الدراسات المستقبلية جامعة القدس

أسعار العملات

الأربعاء 08 مايو 2024 10:24 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.7

شراء 3.68

دينار / شيكل

بيع 5.22

شراء 5.19

يورو / شيكل

بيع 3.97

شراء 3.95

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%76

%20

%5

(مجموع المصوتين 233)

القدس حالة الطقس