في عالم يُفترض أن المعرفة فيه حق للجميع، تتسارع خطوات خطيرة لتقييد حرية البحث وتكميم الأفواه، ليس فقط في الفضاء السياسي، بل داخل المؤسسات الأكاديمية ذاتها، بما فيها أعرق الجامعات في الغرب.
في الآونة الأخيرة، أقدمت الحكومة الأمريكية على خطوة غير مسبوقة تمثّلت في تعليق التمويل الحكومي للبحث العلمي في جامعة هارفارد، ومنع استخدام مصطلحات تفضح التمييز والعنصرية. وقد جاء قرار التعليق عبر المعاهد الوطنية للصحة (NIH)، وهي الجهة الممولة، التي تطالب الباحثين بتعديل محتوى مشاريعهم البحثية لتجنب "لغة غير محايدة"، على حد تعبيرها.
هذا جزء من نمط متزايد من الرقابة المؤسساتية، التي تُفرَض على الباحثين من خلال شروط التمويل، وضغوط النشر، و"توجيهات" أخلاقية ظاهرها الحياد، وباطنها قمع سياسي. بات على الباحث اليوم أن يختار بين قول الحقيقة وتحمل العواقب، أو التزام الصمت المشروط بالاستمرار الأكاديمي.
هذه الأسئلة كانت محور نقاش ورشة أكاديمية شاركتُ في أعمالها مؤخرًا في كلية كينغز بلندن، حيث التقى باحثون وأكاديميون من مختلف السياقات الجغرافية، وناقشوا الخلل البنيوي في إنتاج المعرفة، وكانت مشاركتي خاصة بطمس المعرفة في ميادين الصحة النفسية العالمية.
تساءلت في ماخلتي: من يحدد الأجندة البحثية؟ من يقرر ما هو "علمي" وما هو "غير موضوعي"؟ من يحق له أن يُسمّي المعاناة ويُفسّرها؟ ولماذا تُستبعد الشهادات المحلية، والتجارب الحية، والمعرفة الشفوية من دائرة الاعتراف الأكاديمي؟ ولماذا يتكرر إخضاع المجتمعات المتضررة – كالفلسطينيين – لمنهجيات استشراقية تُجردهم من أدوات التعبير عن ذاتهم وتُقدّمهم كـ "مواضيع بحث" لا كمنتجين للمعرفة؟
يُفرض على الباحثين في جنوب الكره الأرضية أن يكتبوا بلغات ومصطلحات ومفاهيم لا تعكس واقعهم، وأن يستخدموا نماذج نفسية غربية تُعزل الإنسان عن سياقه، وتحصر معاناته في أعراض فردية، دون ربطها بجذرها السياسي والاجتماعي. أما حين يحاول الباحث تحدي هذه المنظومات، فيُتهم بعدم "الموضوعية"، أو يُعاقب بقطع التمويل كما حدث في هارفارد.
في ظل هذه الديناميات، تتحول مفاهيم مثل "بناء القدرات" أو "العمل الميداني" إلى أدوات لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة، حيث يظل "الخبير" من الشمال هو المُفسر، والمحلل، والمُخطط، بينما تُهمّش رواية الميدان، وتُختزل في خانة "المتلقي".
في غزة، تُرتكب الجريمة على مستويين: هناك إبادة جسدية تستهدف البشر، وأخرى معرفية تستهدف الرواية. أكثر من ألف أكاديمي وطبيب وعامل صحي قُتلوا منذ بدء العدوان، بينما دُمرت الجامعات، وحرقت الكتب والمكتبات، ومُنعت الشهادات من التوثيق والوصول إلى المحافل. الشهود العيان، ومن ينقلون الألم، ومن يحاولون توثيق المجازر، يُستهدفون بالتصفية.
في المقابل، في مراكز الأبحاث الغربية، يُطلب من الباحث ألا يستخدم كلمة "إبادة"، حتى لا يُعتبر منحازًا، أو حتى لا يخسر تمويلًا.
ما يُعرض اليوم ليس مجرد خلاف على لغة أكاديمية، بل هو معركة على الحقيقة. وحين يُمنع الباحث من تسمية الظلم، ويُطلب منه أن يُفرغ بحثه من أي مضمون أخلاقي أو إنساني، فإنه يُحوّل إلى شريك في الصمت. بل شريك في الجريمة.
لا يمكن للجامعات أن تواصل التظاهر بأنها ساحات للحرية والبحث الحر، بينما تُمارس الرقابة وتفرض شروط الولاء السياسي. ولا يمكن للباحثين أن يدّعوا الحياد بينما تُباد الشعوب وتُدفن معها روايتها.
فالكلمات التي تُمنع من الورق، ستجد طريقها في الحكايات الشفهية. والحقيقة، مهما تأخر الاعتراف بها، لا تموت.
شارك برأيك
حين تُمنع الكلمات.. تكميم البحث العلمي وطمس المعرفة في زمن الإبادة