هنري غورو الجنرال الفرنسي عند احتلاله لسوريا في القرن الماضي، قال بشكل واضح إنه يصعب احتلال المنطقة والسيطرة عليها، في ظل بقاء سوريا موحدة، ولذلك سموتريتش وزير مالية الاحتلال يعود لخرائط غورو، فهو وضع هدفاً رابعاً للحرب، يضاف للأهداف الثلاثة التي اشترطها لوقف الحرب والعدوان على كامل المنطقة، إضعاف حزب الله الى أقصى حد ممكن، تجريد إيران من قدراتها النووية، وأن تصبح بلا "أنياب"، و"تطهير" قطاع غزة من حماس والمقاومة، وطرد وتهجير مئات الألآف من سكانها إلى خارج فلسطين التاريخية، وعودة الأسرى الإسرائيليين الأحياء إلى أسرهم والأموات إلى المقابر الإسرائيلية.
هدف سموتريتش الرابع، هو تفكيك وتفتيت سوريا، وإشغالها في حروب أهلية مفتوحة عبر الفتن المذهبية والطائفية والعرقية، وهو نفس هدف رئيس وزرائه نتنياهو الذي قال في كلمة له في ذكرى "يوم الاستقلال"، إن جيشه سيحارب وينتصر من رفح وحتى جبل الشيخ.
في ظل غياب قيادات وازنة سورية، كما كان الحال عليه في عهد الإحتلال الفرنسي، قيادات اتفقت على الوحدة والاستقلال، من أمثال سلطان باشا الأطرش وصالح العلي وإبراهيم هنانو وعبد الرحم الشهبندر، فالمنطقة في حالة نكوس وانقسام وتشرذم، وتخضع الى عملية "هندسة" شاملة، هندسة العقول البشرية و"تزييف" الوعي، نحن نشهد حالة النكوس نحو المذهبية والطائفية والعشائرية والقبلية، ويجري "استولاد" قيادات وزعامات محلية، تستقوي بالخارج على أبناء شعبها، إسرائيل ترى أن الفرصة مؤاتية لها، لكي تفرض التقسيم والتفتيت في سوريا، وأهداف الحرب الإسرائيلية، ليست مرتبطة بوجود مقاومة او عدم وجود مقاومة، ووجود سلاح أو عدم وجود سلاح، بل لها أهداف بعيدة في السيطرة والاحتلال، وأن تستعمر وتستوطن في جنوب سوريا وفي جنوب لبنان، وأن يكون لها مناطق أمنية، يحظر على الجيشين السوري واللبناني دخولها، ولجيشها وأجهزتها الأمنية، حرية الحركة والعمل في أي وقت تدعي بأن هناك مخاطر على جيشها وأمنها، واضح بأن إسرائيل لم تكتف بما تحقق لها على يد النظام الجديد الذي أتى بتوافق أمريكي- إسرائيلي- تركي وتمويل قطري، نظام بنيته تقوم على اللون المذهبي والعقائدي والحزبي للحكومة والمؤسسات العسكرية والأمنية، من تدمير كبير لكل مقدرات سوريا العسكرية والتسليحية وتفكيك جيشها وإخراج إيران وحزب الله من سوريا، وقطع شريان إمداد حزب الله من السلاح، وطرد التنظيمات العسكرية الفلسطينية وإغلاق قواعدها ومقراتها العسكرية.
لم تعتبر إسرائيل بأن ما تحقق لها، هي مكافآت وجوائز كافية من قبل النظام السوري، فهي تريد الوصول بالنظام الى أبعد من ذلك، فهي رفضت بشكل قاطع إقامة قواعد عسكرية تركية في سوريا أو توقيع اتفاقية دفاع مشترك وبناء شبكة دفاع جوي وتحديث الجيش السوري، بل قصر الأمور على قيام تركيا بتدريبات للجيش السوري، وعلى النظام الجديد أن يسلم بضرورات واحتياجات إسرائيل الأمنية في منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا، وأن يتخلى عن المطالبة بالجولان السوري المحتل، وفي رد الحكومة السورية على الرسالة التي وجهتها الإدارة الأمريكية لحكومة الشرع حول شروط رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، قالت بأن سوريا لن تشكل أي تهديد أمني لدول الجوار، بما في ذلك إسرائيل، وهي ستراقب نشاط التنظيمات الفلسطينية، ولن تسمح بأي وجود لإيران وحزب الله، وأبدت استعدادها لكي تنضم الى اتفاقيات أبراهام التطبيعية، وكذلك جرى الاتفاق بين إسرائيل وتركيا في الاجتماع الذي عقد بينهما في نيسان الماضي في أذريبيجان على تقاسم النفوذ في سوريا.
واضح أن ما يجري اليوم في سوريا من بعد الاشتباكات وعمليات القتل الواسعة التي جرت على الهوية في منطقة الساحل، وانتقلت الى جرمانا وصحنايا في ريف دمشق والسويداء، دقت ناقوس الخطر أمام كل المكونات السياسية والمركبات الإثنية والعرقية والطائفية في سوريا، بأن هذا النظام في بنيته الحالية، والقائمة على ايدولوجية دينية متطرفة، والإستحواذ والاستفراد على وبكل مفاصل الحكم والدولة، لن يكون قادراً أن يشكل جامعاً وموحداً لكل المكونات والمركبات السورية، ولذلك نجد أن هناك من يستغل الوضع الناشئ في سوريا، لكي يطالب بوضع سوريا تحت الحماية الدولية، وهناك من يطالب بحماية من اسرائيل، والتي هي بالأساس تعبث بالنسيج الاجتماعي السوري، ولذلك تدخل طيرانها لقصف تجمعات لقوات النظام السوري الجديد، خدمة لصالح الدروز، الذين أكدت قياداتهم بأنهم جزء ومكون أساسي من النسيج السوري.
الصراع مع الخارج المعتدي يتحول رويداً إلى صراع داخلي تناحري والانقسام يحول بعض القوى الداخلية الملونة الى أداة طيعة مجندة وطابوراً خامساً والخطوط الحمراء تصبح باهتة والتابوهات المقدسة تداس على يد صناعها انفسهم.
ليست وحدها الساحة الفلسطينية من تعيش حالة اغتراب، و"هندسة" على يد الحلف الأمروصهيوني، بل هي تنسحب على سوريا ولبنان، والكثير من الدول العربية التي تحولت الى دول فاشلة، وتنخرها الصراعات والحروب الداخلية المذهبية والعرقية والقبلية، وباتت تعيش حالة من التفكك والتقسيم، ليبيا، السودان وسبقها الصومال واليمن، والعدوى تنتقل الى بقية الأقطار العربية، وإسرائيل تقول إن أمنها لن يتحقق إلا عبر احكام سيطرتها على جبهات سوريا ولبنان والأردن ومصر وفلسطين.
ليست فلسطين وحدها من تعيش حالة الاغتراب عن ذاتها، فالثورة لم تعد ثورة، وباتت المقاومة توسم بالمغامرة والأجندات الخارجية والمشبوهة، وحتى يتم وصف المقاومين بالخارجين عن القانون، نفس الحالة نشهدها في لبنان، حيث يجري توجيه الاتهام الى حزب الله وسلاحه، بأنهما السبب في كل مآسي لبنان، وتبرئة الاحتلال الإسرائيلي من المسؤولية عن ذلك.
المنطقة كلها تحت "الهندسة" والتقسيم ، والناس في حالة نكوص للوراء نحو الجماعة العرقية والطائفية والقطرية على حساب الكل الجامع الموحد.
ما جرى وما يجري خطير جداً على مستقبل سورية، وما منع الجنرال غورو من تنفيذ مشروعه القرن الماضي ليس موجوداً اليوم بغياب قادة من طراز سلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي وعبد الرحمن الشهبندر، وما لم تتم إعادة تشكيل المشهد السياسي والحكومي والأمني والعسكري بصورة تشاركية تطمئن الجميع فإن المشهد القائم لا يبشر إلا بالمزيد من الاشتعال.
شارك برأيك
سوريا تحت "مقصلة" التفكيك و"التذرير"