استوحيتُ عنواني من قصيدةٍ للشاعر الفلسطيني محمود درويش "يأسُ الليلَك" التي يضرب فيها بِنَايِه الحزين على واقع الأمّة العربية وانكفائها السّياسي حتى يصِلَ به الحال إلى اليأسِ من خُمودِها المُنكسر وحالةِ الانزلاق الجَماعي وتسابقها إلى قاعِ الحضيض، على الرّغم من عودته قبل تتمّة القصيدة وإلقائه ببذرةِ أملٍ لقيامةٍ جديدة من رماد الفُرقة والشّتات ... وقد كانت عملية استخدام البيان التناقضي (الإرداف الخُلفي) - والمصطلح ورد في كتاب نبيل طنوس"اقتفاء أثر الفراشة .. دراسة في شعر محمود درويش" 2019 - التي اختزلها عنوان القصيدة "يأس الليلك"، كانت كافية لتسليط الضّوء وقادرة على تشخيص وقراءة واقع الأمة الميؤوس منه، وأرى بأنّ هذا التزاوج البياني الذي أحلّه درويش بين متناقضَيْن ( السلب والايجاب ) وجمع بينهما في قالبٍ لغوي بياني واحد "يأس الليلك" قد أضاف فهماً جديداً وأعطى قراءةً أكثر عمقاً للحالة العربية وملابساتها .
وللحقيقة إنني وبعد قراءةٍ متأنية وراغبة للقصيدة دهمَتني فكرة كتابة هذا المقال "احتراق الليلك" في محاولة لإبراز معنىً آخر وتوليد المتناقضَين لِفهمٍ جديد، على اعتبار أنّ الجزء من الكلّ وأن الكلّ يعمل ويتفاعل مع نشاط الجزء، هذا إن كان الجزء ذو فاعلية، وإمكانية التقاط مفاتيح تحريك "الكل" وتوجيهه إلى مَرامات ومُبتغَيات الجزء .
أكتب "احتراق الليلك" كشمعةٍ تلفظ أنفاسَها في آخر ليلِ القيد الطويل لعلّ فارساً من فوارس الذكريات العتيقة تضِلّ به الطريق فيسلك جبال المَنسيين فيرى ذبالَتها الشحيحة فيُشهر صوته، وأكتب "احتراق الليلك" كَطَرقة خزانٍ تصعقُ خُواء الصّمت الثّوري تجاه قضيّة المَنسيين (الأسرى) ، فما عادَ في جُعبة الصّبر من نِبالٍ يرمونها في فيحاءِ الأمل العقيم، وما بقيَ من احتراقهم احتراقٌ يُدفئ رماد أرواحهم ، وكأنّ صرخة "درويش" للصمّ المارين الهُوَينا بين مطارق الحدّادين في سوق تناسُل المفاهيم المتناقضة وتضادّها زادَتْ من صَمَمِهم .
قد رآنا "درويش" بعيون قصيدته وقد كنّا نغرِس زهرةَ الليلَك من ثقوب زنازينِنا في بُستان أحلامنا يومَ انشقّ القمر وعندما أدمعت النجمات روحَ الشّباب منّا ، ورآنا نسقي ليلَكَتنا عرقاً وفرحاً وحزناً ولغةً عربية ولهجةً كنعانية كي نحيا بها ولكي تحيا فينا ، فكلما كبُرَت بنا وأوفرت ظِلالُ زنابقها هجَعنا تحتها نحترِق في بعضنا كطائر الفينيق المُتعب من ألفِ عام، هجعنا تحت ظلالها نحترق في بعضنا لا لشيء بل لعلّنا نُبعث مِن رمادنا من جديدٍ وقد دَالت "فَنِيَت" قبائلُ المُتعَبين من شَعْب الثّورة وانبعثت قبائِلٌ أُخَرُ مِن رماد الأَمس كَيَرقة فَينيق تطيرُ بأرواحنا ونطير نحن بجناحَيها من أمْسِنا إلى غدِنا الأبديّ، بعدما تكون قبائل شعبنا البريئة قد تناقلت أنشودة تزاوج الحمام بهديل "درويش" وهو يعزفُ نَايَه المُبتئس على أوتار أُمنياتنا (الأسرى) ويقول
"أُصغِي إلى جسدي ، للموتِ فاكهةٌ
وللحياة حياةٌ لا تُجدِّدها
إلا على جسدٍ .. يُصغي إلى جسدِ
ونهايةً : لا بدّ من جسدٍ بريٍء سليم نسندُ عليه وإليه أجسادَنا المتعبة من عِبء السّلاسل والسّنين ، ولا بدّ لنا من احتراقٍ بين الكلّ والجزء لا لشيءٍ بل لنتحرّر من وعثائنا !
ولا بدّ لنا من إعادةِ تسجيلٍ لأسمائنا في صُحف قبائلنا كي نناديها يَومَنَا فتعودَ إلينا بالغدِ
شارك برأيك
احتراق الليْلَك