يضم هذا الملف سلسلة من المقالات كتبها عشرة من الباحثين والدبلوماسيين والمحررين المختصين في الشؤون الدولية، من بينهم ريتشارد هاس، جينيفر روبين، وروبرت مالي، وغيرهم، وقد سعوا إلى تقييم السياسات الخارجية التي انتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال المئة يوم الأولى من ولايته الثانية. يغطي الملف جملة من المحاور تمتد من السياسات الاقتصادية والتجارية إلى التحالفات العسكرية التقليدية، مرورا بالتحولات في العلاقة مع الصين وروسيا، والمواقف من أزمات الشرق الأوسط، وصولا إلى الانعكاسات الأخلاقية والدبلوماسية لانكفاء واشنطن عن دورها القيادي التقليدي. وتأسيسا على هذا المحتوى، يقدم النص التالي قراءة تحليلية لأبرز ملامح هذه المرحلة من السياسة الخارجية الأميركية، كما تجلّت خلال المئة يوم الأولى من الولاية الثانية للرئيس ترامب.
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بداية هذا العام، دخلت الولايات المتحدة والعالم مرحلة جديدة من التوترات والتحولات الجذرية. فالرئيس الذي لطالما عُرف بخرقه للأعراف وتحديه للمؤسسات، عاد إلى السلطة في سياق دولي أشد تعقيدا مما كان عليه في ولايته الأولى: حرب طويلة في أوكرانيا، وتصاعد النفوذ الصيني، وتراجع ثقة الحلفاء بالنظام الليبرالي الدولي. وخلال المئة يوم الأولى من ولايته الثانية، طبق ترامب سياسات خارجية حادة وسريعة، استهدفت كل من خصوم واشنطن وحلفائها التقليديين، وبدت كأنها تسعى لإعادة صياغة النظام العالمي لا عبر البناء، بل عبر الضغط والتفكيك والانكفاء القومي.
اقتصاد «أميركا أولا» ولكن بأي ثمن؟
منذ اليوم الأول في ولايته الثانية، أعاد ترامب التأكيد على شعاره الأساسي: «أميركا أولا». لكنه طبّق هذا المبدأ هذه المرة من خلال قرارات اقتصادية أشد عدوانية من ذي قبل؛ فقد فرض تعريفات جمركية باهظة على واردات استراتيجية من الصين والمكسيك وكندا، وأعاد التهديد بفرض رسوم على قطاع السيارات الأوروبي، في خطوة تسببت في إرباك الأسواق المالية.
كما دخلت العلاقة مع الصين مرحلة توتر غير مسبوق منذ عقود، إذ تم فرض رسوم بنسبة تجاوزت 100٪ على واردات التكنولوجيا، بينما ردّت بكّين بوقف توريد المعادن النادرة، مما هدد بإرباك سلاسل الإمداد العالمية. في الوقت ذاته، بدأت دول أخرى، كالهند والبرازيل، باتخاذ تدابير لحماية نفسها من موجات العقوبات الثانوية الأميركية، ما يكشف فقدان واشنطن لهيبتها كقوة تنظيمية للتجارة العالمية.
على المستوى الداخلي، لم تنجُ الأسواق الأميركية من تداعيات هذه السياسات، إذ سجلت الأسعار ارتفاعات ملموسة، ولا سيّما في المواد الصناعية والغذائية، وتراجعت بعض مؤشرات الثقة في قطاع الصناعات التحويلية، مما شكّل أول إشارة إلى أن النهج الحمائي قد لا يفضي إلى تعزيز النمو كما وعد ترامب ناخبيه.
تفكيك التحالفات واستبدالها بصفقات آنية
لم تكن المئة يوم الأولى لترامب في ولايته الثانية حافلة بالإجراءات الاقتصادية فحسب، بل شهدت أيضا هزات كبرى على صعيد العلاقات مع الحلفاء التقليديين. فقد واصل الرئيس الأميركي الضغط على الدول الأوروبية لزيادة مساهماتها في حلف الناتو، ملوّحا بتقليص الالتزامات الدفاعية الأميركية، ما أثار قلقا متزايدا في برلين وباريس. وفي آسيا، مارست الإدارة الأميركية ضغوطا مالية وسياسية على اليابان وكوريا الجنوبية، مطالبة إياهما بتمويل كلي للوجود العسكري الأميركي، تحت طائلة الانسحاب. في المقابل، بدأت الدولتان بزيادة تنسيقاتهما الدفاعية مع أستراليا والهند، في مؤشر على البحث عن موازن إقليمي بعيدا عن الضغوط الأميركية.
أما في أميركا اللاتينية، فقد استخدم ترامب ملف الهجرة كورقة تفاوض قاسية، من خلال ترحيل آلاف المهاجرين وفرض شروط أمنية مشدّدة على التعاون مع المكسيك ودول أمريكا الوسطى. وعلى الصعيد الدبلوماسي، تراجعت المساعدات التنموية الأميركية بشكل كبير، مما أفسح المجال أمام الصين لتعزيز حضورها الاقتصادي في المنطقة. باختصار، استبدل ترامب منطق التحالف القائم على الثقة والاستمرارية، بمنطق الصفقة المؤقتة والمصلحة المباشرة، وهو ما أدى إلى تآكل نفوذ الولايات المتحدة حتى بين أقرب حلفائها.
الشرق الأوسط بين التصعيد والانكماش
في الشرق الأوسط، بدت سياسات ترامب في ولايته الثانية امتدادا لنهجه السابق، ولكن دون امتلاك رؤية استراتيجية واضحة. فقد استمر في تقديم دعم غير مشروط لإسرائيل، مع تأييد ضم أجزاء من الضفة الغربية، وفي الوقت ذاته، ضغط من خلف الكواليس لوقف العمليات العسكرية في غزة خشية التصعيد الإقليمي الواسع. لم يقدّم ترامب أي مبادرة سياسية جديدة تجاه القضية الفلسطينية، بل أعاد تجميد المساعدات للسلطة الفلسطينية، وضيّق الخناق على المؤسسات الدولية العاملة في الأراضي المحتلة. وفي الملف الإيراني، عاد إلى لغة العقوبات القصوى، دون التلويح بأي مسار دبلوماسي بديل، مكتفيا بالتصعيد الإعلامي والسيبراني.
أدّى هذا التخبّط الاستراتيجي إلى فراغ دبلوماسي في أكثر مناطق العالم هشاشة. فقد أعادت روسيا تفعيل قنواتها مع كل من إيران وسوريا، بينما عززت الصين استثماراتها في البنية التحتية الخليجية، دون أن تواجه رد فعل أميركي حازم. وهو ما يدلّ على أن الانكماش الأميركي في المنطقة لم يكن منظّما بل ارتجاليا، يفتح الباب أمام فواعل إقليمية ودولية أخرى.
تآكل القيادة الأخلاقية للولايات المتحدة
لعلّ التغير الأعمق في سياسة ترامب الخارجية هو تراجع ما يُسمّى بـ»القيادة الأخلاقية» الأميركية، والتي طالما استندت إلى مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية؛ فخلال مئة يوم، لم يصدر أي موقف أميركي واضح بشأن الانتهاكات في ميانمار، أو القمع في إيران، أو تضييق الحريات في بعض الأنظمة الحليفة. كما تراجعت برامج دعم الديمقراطية والمجتمع المدني، وتقلص تمويل المنظمات الدولية، في الوقت الذي عززت فيه إدارة ترامب علاقاتها مع أنظمة سلطوية بذريعة مكافحة الإرهاب أو حماية المصالح الاقتصادية.
أدّت هذه الانعطافة في الخطاب والسلوك إلى تآكل صورة الولايات المتحدة كمرجعية أخلاقية، ودفعت بالكثير من الشعوب، وحتى بعض النخب الغربية، إلى النظر إلى واشنطن كقوة مصلحية لا تختلف كثيرا عن منافسيها من القوى الكبرى.
خاتمة
كشفت المئة يوم الأولى من ولاية ترامب الثانية بوضوح عن ملامح نظام عالمي جديد يتشكل ببطء، مع تراجع الدور الأميركي التقليدي كمحور استقرار وقيادة. فالسياسات القائمة على التصعيد والانعزال ونزع الشرعية عن الحلفاء والشركاء، لا تبني نفوذا بل تفككه. ومع أن ترامب قد يحقق بعض المكاسب السياسية الداخلية على المدى القصير، فإن العالم بدأ بالفعل بإعادة ترتيب تحالفاته واستراتيجياته، متحررا – ولو جزئيا – من سطوة الهيمنة الأميركية التقليدية. وبالتالي، فإن الخطر الأكبر لا يكمن في قرارات ترامب بحد ذاتها، بل في المنطق الذي يحكمها، وهو منطق لا يرى في النظام الدولي سوى ساحة صفقات، لا شبكة مصالح ومبادئ مشتركة.
شارك برأيك
المئة يوم الأولى لترامب على الساحة الدولية