بنكهة وطنية روحها من حزنٍ وألم، وفي أمسيةٍ تلحمية بامتياز، غنّت فيها زهرات وأشبال فرقة إبداع "الدهيشة" أغاني البلاد، وأنشدت لغزة والقدس حريةً وكرامةً وحُبًّا، أطفالًا يافعين صغارًا، في عمرِ البداياتِ الأولى، وعلى وترِ الفداء عزفوا نشيدَ الوطن، وبحضورِ جمعٍ غفيرٍ قدِم للاحتفاء بغزة التي كتبها عيسى قراقع بقلمه وروحِ فؤاده، ساردًا من بين الجثثِ حكايات، وطابعًا قبلةً على جبين غزة مرسومة من حبرٍ ودم.
أمسيةٌ لافتةٌ للأنظار بحضورها الفذ، وقناديلُ أضاءت عتمةَ الوقتِ والزمنِ المحاصرِ بالأشلاء، وفي ميقاتِها لغةٌ عابرةٌ تضيء زمنَ الانكفاءِ بالحضور، وتعيد التوازنَ الطبيعيَّ بين جلاّدٍ وضحية، مثل صرخةٍ تدوي في المدى، فتكشف لثامَ الصمت، وتفضح دمويةَ ما جرى، وتؤسّس لحالةٍ أخرى عنوانُها الحياةُ في مواجهة الموت، والخلودُ والبقاءُ في مواجهةِ النفيِ والشطبِ والإبادةِ والتطهيرِ العرقي.
هكذا احتفت بيت لحم براهب الأسرى الذي أصدر كتابه "بقبلة على جبين غزة"، وبهذا الوفاء لغزة حضر الناسُ وجاؤوا لفيفًا من شتّى الأماكن، ولم يكن حضورُهم ليشهدَ صدقَ الإبادة، بل ليؤكّدوا فعلَ النجاة من وحلِ الموتِ والحصارِ والخراب، والقيامةِ من بين الجثثِ والأشلاء.
لو رأى بن غفير ذلك لجنّ جنونه، ولو شاهد سموتريتش للعن حظَّه في الحكومة وهو يرى عجزَه وضعفَه وسخفَ روايته، ولو علم نتنياهو لجاء بالميركافا وطائرات F-16 وهدم المبنى على من فيه، ودمّر المسرحَ الذي احتضن الأمسية، لكن للحظِّ أيضًا مساحةٌ تنصف الضحية، فالمبنى شُيّد قبل سنوات بدعمٍ سخيٍّ من الرئيس بوتين، وحمل اسمَه وهندسةَ بلاده التي انتصرت على جبروتِ الطبيعة. فقد بُني بمحاذاة مخيم الدهيشة للاجئين، وربما لأجلِ ذلك لم تقتحم دباباتُ الاحتلال المبنى أو تقصفه، أو ربما لأنهم وقعوا في المصيدة، بين حبرٍ ودم، ترى من ينتصر في الخاتمة! الضحية أم جلادها؟
كم يزعجهم ذلك السؤال، لأن التاريخَ حافلٌ بالشواهد، فلا ضحايا يموتون إلى الأبد، ولا منتصرَ يحيا حتى الأبد. نحن، وإن كنا الضحايا لغول الاحتلال الكولونيالي الذي يبطش بنا على مرأى العالمِ الواقف إلى جهةِ الانحيازِ أو الحياد، لكننا الضحيةُ التي لا تموت، بل تحيا لتعلن انتصارَها على جلادها، وترفع "مئذنةً للبنفسج أو نخيلاً" لأننا بحقٍّ، "نحبّ الحياة ما استطعنا إليها سبيلًا".
بالأمس كانت سماء بيت لحم زرقاء، مضاءةً بالشموع وقناديل الزيت المقدّس، وكان الهواء ملحميًّا من هوى وهوية، بتعويذةِ الصبرِ المرسومة على خدِّ الجدّات، وكان لزامًا علينا أن نقولَ ذلك في وضحِ الزمانِ المرّ، الذي يصرُّ على النهوضِ بأبطاله التراجيديين، الساخرين من أعدائهم، الباحثين عن النجاة، الأحياءِ رغم الموت، الواهبين الحياةَ ضحكتها في شغفِ الشفاهِ التي يبست من قسوةِ الحرب.
الكتابة في زمن الإبادة والتطهير العرقي فعل صادق، وتعبير مقاوم، يتعدى مفهوم التدوين والتوثيق ورصد الأحداث، ويفوق كثافة النص المعتاد الحالم، ويتقدم على بلاغة المجاز في وضح الحقيقة، فهو امتداد لمنسوب الألم والفقد، ومحاولة التفاف على الموت نحو النجاة، وتحايل على صور الجثث والأشلاء، ونهوض من تحت ركام القصف والدمار، وانبعاث من خلف خطوط الإبادة.
بقي أن نقول مرَّة أخرى يجمعنا عيسى قراقع بهذا الامتداد العاطفي وهذا التلاقي، ويدلي بدلوه في مرافعة الضحية التي تصرخ في وجه جلادها، وهي تعلن قيامتها من بين الجثث، وتخرج كطائر الفينيق لتحيا ثانية، وتشهد انبعاث المعجزة.
شارك برأيك
عيسى قراقع راهب الأسرى وكليم الألم