ربما لعب الإعلام، لعبته في هذا العدوان. فالإعلام يضع في العقول ما ينبغي التفكير به ، ويضع في الأفواه ما يجب أن تقوله.. ولهذا ،ربما، رأينا المجاميع ،هنا وهناك، مُساقة ومستسلمة ومُسرنمة، أمام هذا الخطاب الموجّه. والإعلام أي إعلام، لن يكون حيادياً، وله رسالته الخاصة به، ويتغيّا فعل دور يسعى لتحقيقه، بالضرورة والفعل. وبالتالي علينا سبر غور ما نتلقّاه من سيل عارم من الفضائيات، التي، تلهج بالمصطلحات المعادية أو غير المناسبة والدقيقة، وغالباً، ما تذهب للانحياز، ظاهرياً، إلى الطرف الأول، وهي ، في الحقيقة ، تدسّ السمّ في العسل ، وتنحاز مع الطرف الثاني! مباشرة أو غير ذلك، بآليات حذقة ، تعتمد مدارس ونظريات، وتترجم ما خلصت إليه مطابخ سياسية وأمنية، لتحقيق غايات، غير معلنة بالضرورة، لمؤسسات وجهات ودول واصطفافات.
وبالرغم من تقديرنا لإعلاميينا الرائعين المناضلين، الذين يصلون الليل بالنهار، ويتفانون في أداء مهمتهم الصعبة والخطيرة، ويجهدون دون ذلك ، ويدفعون أثمانا لا تحتمل!.. إلا أن معظم الفضائيات السياسية ، تمارس دوراً ذا خطورة بالغة وشديد الحساسية ، وتساعد العدوّ ، من حيث شاءت أو لم تقصد. فمثلاً: تعتمد بعض الفضائيات كلمة "قتيل أو ضحية" بدل الشهيد، ما يجعله رقماً، ودون أيّ قداسة أو مهابة! وتستخدم مُسمّيات اسرائيلية لمواقع جغرافية فلسطينية، ما يوحي بيهوديّتها! وتبثّ المؤتمرات الصحفية لقادة الإحتلال والناطقين باسم عدوانه، ولا تبثّ كلمات ومؤتمرات وخطابات الفلسطينيين، من قادة ومقاتلين! وتصف المواجهات مع قوات الاحتلال بأنها "حوادث عنف"! وتُقدّم العدوان الاحتلالي المتواصل، والحرب الصهيونية المفتوحة على الشعب الفلسطيني، على أنها حرب بين جيشين أو بين طرفيْ صراع! أي أنها تساوي بين الضحية والجلاد! والأخطر أن بعض الفضائيات تقدّم هذا الصراع على أنه بين إسرائيل و"فصيل" فلسطيني واحد ووحيد! بما يعنيه ذلك من دلالات شديدة التدمير على مستوى الوحدة الوطنية، وإغماطٍ لدور كل الشعب المقاتل والتاريخي! مع احترامنا لكل القوى المناضلة التي تجاهد ، بغير شكل ووسيلة، منذ عقود حتى اللحظة.
والمريب هو أن هذه الفضائيات ، لا تكلّ ولا تملّ، وهي تستضيف "الصحفيين والسياسيين والعسكريين والمحلّلين والدبلوماسيين الإسرائيليين المتطرّفين، صباح مساء، مما يُعطيهم مساحة لتبرير جرائمهم، وتمرير خطابهم وهستيريا كذبهم المُلفّق، وشرعنة ما يقومون به من فظاعات وجرائم ، يقشعرّ منها الحديد، وبما يجعل الصراع "صراعا بين وجهتيْ نظر" وليس صراع وجود! وكأن الإسرائيلي"طبيعي" ويمكن محاورته والتعايش معه؟!. والأكثر ريبة أن الفضائيات تربط بين هؤلاء وبين القدس ، ذلك أنهم استضافوه وهو من "القدس"، ثم يشكرونه!!
هل رأيتم فضائية إسرائيلية تستضيف فلسطينياً أو عربياً ، وتعطيه مساحة ليقدّم مرافعته وسرديّته ومظلمته؟
إن نظريات "الإرهاب" و"التكرار" و"التحليل على أنه خبر" و"الانتقاء" و"التركيز على جزء دون الأجزاء كلها "و"الإيحاء "واحتلال الهوامش" و"القطع"..الخ ، كلها نظريات ومكانيزمات تفتّ في عضد الموضوعية والنزاهة والحياد المُدّعى!
وربما لا أعجب من الفضائيات الغربية المعادية، لكنّي أمتلئ بالأسف على فضائيات عربية ، وهي ليست كذلك. أليس كذلك؟
ويُعنى الإعلام، وقت الحروب، بجمع وتحليل ومعالجة البيانات والمعلومات والصور والحقائق ،من كافة المصادر، والتأكّد من صدقيّتها ،وصياغتها بأسلوب يتقبّله المجتمع ، باستخدام كافة الأذرع الإعلامية ،وإحباط نوايا الحملات المضادة ؛ من شائعات سوداء وذباب أليكتروني وطابور خامس، وتعميق الولاء الوطني والقومي .
ويعتمد الإعلام على ثلاثة عناصر هي : مجريات الحرب من اشتباكات ومعارك ، العنصر البشري من مدنيين ومقاتلين وأبنية ، والأسلحة المستخدمة، التقليدية والمُحرّمة، باعتبارها عنصراً حاسما وذا ثأتير بالغ .
وبشروط أهمها؛ دقّة المعلومات ، السرعة ، توظيف الامكانيات للحصول على ما هو خاص واستثنائي ، ومراعاة مقتضيات السرّيّة وحفظ المُقدّرات الوطنية .
وعلى الإعلام وقت الحروب أن يتميّز بالقدرة على إقناع الناس، دون تكرار أو إجبار ، وتوفّر الموضوعية ، ووضوح المفاهيم ، وإبقاء المصداقية والنزاهة ، وتحقيق التوعية وشحذ الهمم الإنسانية، لمختلف الطبقات .
وأعتقد أن الإعلام الغربيّ المنحاز ، وغير النزيه، وغير الموضوعي .. يعتمد الأسس المناسبة له، والتي تُعارض ما توافق عليه الدارسون والمختّصون، لأنهم يدركون بأن الإعلام سلاحٌ خطير ونافذ ، ولا تقلّ أهميّته عن الصواريخ والطائرات.. هذا إذا لم تكن أكثر وأبلغ! لهذا نسوق ما يقوله مدوّن فرنسي ،يعمل في الصحافة؛ بأن ثمة 11قاعدة ، هي تلك التي يجب أن يعرفها قبل نشرة الأخبار المسائية "في قناة إخبارية فرنسية أو غربية عموما"، وهي القواعد التي على مقدم الأخبار التقيّد بها:
القاعدة رقم 1: في الشرق الأوسط، الفلسطينيون دائمًا هم من يهاجمون أولاً، وإسرائيل دائمًا هي التي تدافع عن نفسها. وهذا ما يسمى الانتقام المشروع.
القاعدة رقم 2: لا يحق للفلسطينيين قتل المدنيين من الجانب الآخر. إنه يسمى الإرهاب.
القاعدة رقم 3: يحق لإسرائيل قتل المدنيين الفلسطينيين. وهذا ما يسمى الدفاع عن النفس.
القاعدة رقم 4: عندما تقتل إسرائيل عدداً كبيراً جداً من المدنيين، فإن القوى الغربية تدعوها إلى ضبط النفس. وهذا ما يسمى رد فعل المجتمع الدولي.
القاعدة رقم 5: لا يحق للفلسطينيين أسر جنود إسرائيليين، حتى لو كان عددهم محدوداً جداً ولا يتجاوز جندياً واحداً.
القاعدة رقم 6: يحق للإسرائيليين اختطاف أي عدد يريدونه من الفلسطينيين (حوالي 12 ألف أسير حتى الآن). ليس هناك سقف، ولا داعي لتقديم أي دليل على ذنب المختطفين. كل ما عليك فعله هو أن تقول الكلمة السحرية "إرهابي".
القاعدة رقم 7: عندما تقول "المقاومة" عليك أن تضيف دائماً عبارة "المدعومة من إيران".
القاعدة رقم 8: عندما تقول "إسرائيل"، فلا يجب عليك طبعا أن تضيف المدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وأوروبا"، لأنه يمكن للمشاهد أن يظن أنه صراع غير متوازن.
القاعدة رقم 9: لا تتحدث أبدًا عن "الأراضي المحتلة"، ولا عن قرارات الأمم المتحدة، ولا عن انتهاكات القانون الدولي، ولا عن اتفاقيات جنيف. هذا قد يربك المشاهد ويشوش عليه.
القاعدة رقم 10: الإسرائيليون يتحدثون الفرنسية والإنجليزية أفضل من الفلسطينيين. وهذا ما يفسر سبب منحهم الكلمة لهم ولمؤيديهم كلما أمكن ذلك. حتى يتمكنوا من شرح القواعد السابقة (من 1 إلى 9). وهذا ما يسمى بالحياد الصحفي. والاستعانة بخبراء من المنطقة لشرح ما يقع.
القاعدة رقم 11: إذا كنت لا توافق على هذه القواعد أو إذا وجدت أنها تحابي طرفاً في الصراع ضد طرف آخر، فأنت معاد للسامية.
أما إذا التفتنا إلى باقي الفضائيات العربية ، المتنوعة البرامج، فإننا نراها غارقة في "التسلية"، والإبهار ، والضحك المجانيّ ، والثرثرة السطحية ،والاستهلاك، والتغريب.. وكأنها تحيا في كوكب بعيد! وقليل من تلك الفضائيات يقدّم ،بخجلٍ وترددٍ واستحياء، أخبار العدوان، بخفوت ومرورية ، وعلى عجلٍ، وفي ذيل النشرة الإخبارية.. من باب رفع العتب، وكأن الأمر لا يعنيها!
وبالمناسبة ؛ فإنني أبحث عن كلمة أو مصطلح، يصلح لأن يُلخّص هذا العدوان! لأن كل الكلمات السابقة لا تفي بالغرض. فما يحدث أكبر وأكثر دموية وبشاعة وبربرية وهولاً مما فعلته النازية والفاشية ومحاكم التفتيش والإبادات الجماعية في العالم الجديد، وما اقترفه جنكيزخان والهمج والتتار والصليبيون، وما اجترحته الهولوكست وحروب الغابات الأولى .. وبالتالي فإنني أتمنّى أن يبذل الزملاء الإعلاميون والمختصّون والمفكّرون ،جهداً إضافياً ، لعلهم يُخلِّقون مفردة غير مبذولة ، ويقدّمون لنا مصطلحاً شافياً وافياً، يجمع الصورة، التي تترجرج، وتتفلّت وتنداح وتتسع، وتفيض بدمائها وركامها وشظاياها وحرقتها وجحيمها. وعليه؛ فإننا نعتقد أن ما تقوم به الصهيونية هو جمع وتطوير وتكثيف لكل الفظاعات ، عبر التاريخ، وإعادة إنتاجها علينا. وستكون المصطلحات السابقة، عاجزة وقاصرة عن التعبير، ومبتسرة، ولا تدلل على ما حدث بالفعل!
أقلام وأراء
الأربعاء 22 نوفمبر 2023 11:04 صباحًا - بتوقيت القدس
الفضائيات العربية،والعدوان (يمكن الاستماع للقاتل!)

دلالات
المزيد في أقلام وأراء
القمة العربية ...وتشتيت الفلسطينيين
عصام أبوبكر
الجوع والنزوح ومعادلة اليأس والتفاؤل
مصطفى ابراهيم
بعد حرب الإبادة في غزة: فتح وحماس ودحلان ومأزق المشروع الوطني الفلسطيني!!
تحولات لصالح فلسطين
نريد مواقف دولية تتجاوز بيانات الشجب والاستنكار
أورشليم يا أورشليم.. ولا يتركون فيك حجراً على حجر
حين تختفي غزة من العناوين.. قراءة في أجندة الإعلام العالمي
ترمب ونتنياهو خلاف حقيقي أم سحابة صيف عابرة؟
تصدّعات داخلية في جدران الغيتو الإسرائيلي، ما الدلالات!
في غزة الناس ينتظرون مصيرهم
مصطفى إبراهيم
هل ساميتهم خير من ساميتنا ؟
أمين الحاج
غزة والإبادة جوعاً
د. جبريل العبيدي
سِــفر الآلام
نبهان خريشة
القدس تحت المجهر.. معركة وعي بلا مرجعية "بين أوسلو وعدوان أكتوبر 2023".. السياسات تصوغ مواجهة...
مالك زبلح
هذا هو الفرق بيننا وبينهم
من الدولة المدللة.. إلى المنبوذة
سلاح التظاهرات دعماً لفلسطين
مواقف دولية وتصريحات واعدة
قطع الرواتب.. دعوة لإعادة النظر !
الفرصة الأوروبية.. كيف نبني على التحولات الشعبية والسياسية في الغرب؟
الأكثر تعليقاً
واشنطن تعيد النظر في تصنيف «طالبان» إرهابية

حماس: إسرائيل تضلل العالم بادعاء إدخال مساعدات لغزة

هل ستفضي هذه الجهود الدبلوماسية المكثفة إلى هدنة حقيقية تنقذ ما تبقى من غزة؟

زامير يتوعد: سنوسّع الاجتياح ونحتل مزيدًا من مناطق قطاع غزة

الضفة تحت النار.. تفجير منازل وحرق مركبات واعتقالات

الحد من مخاطر التدخين في النرويج بين واقع المجتمع وطموح السياسات العامة

النائب راندي فاين يدعو إلى قصف غزة نوويًا كما حدث مع اليابان بعد إطلاق النار في واشنطن

الأكثر قراءة
الاحتلال يعتقل شابا خلال اقتحامه بلدات وقرى في محافظة جنين

الرئيس عباس يجتمع مع رئيس الوزراء اللبناني

مستعمرون يقتحمون مدرسة عرب الكعابنة شمال غرب أريحا

الإعلام الحكومي في غزة: تلف أطنان من المساعدات ومنع إدخالها يعمّق المجاعة في القطاع

قصف إسرائيلي يستهدف مركبة في عين بعال جنوبي لبنان

الجهود المشتركة متواصلة : وزير الشؤون المدنية يستقبل وفداً من مصلحة مياه محافظة القدس

هجوم روسي يقتل 6 جنود أوكرانيين وسط حراك دولي لإنهاء الحرب

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%56
%44
(مجموع المصوتين 1268)
شارك برأيك
الفضائيات العربية،والعدوان (يمكن الاستماع للقاتل!)