أقلام وأراء

الخميس 28 مارس 2024 9:27 صباحًا - بتوقيت القدس

تبقى ( القدس) منارة لكل الصحف

تلخيص

عندما يرحل العظماء فانهم يتركون خلفهم ارثا حقيقيا يتذكره الباقون لسنوات طويلة ، كيف لا ومن رحلوا كانوا يشكلون منارة تضيئ بكل ما تحمله من إشعاع ، لتنير الدرب امام الوافدين إلى مهمات الحياة لينهلوا من تجارب حماة الأمة ،وركنها المنيع ، وصمامها الامين ..


ونحن نستذكر في أسرة صحيفة (القدس )اليوم الذكرى التاسعة عشر لرحيل أسطورة الإعلام الفلسطينية وهرمها الشامخ وعميد الصحفيين وشيخهم ، الراحل الكبير محمود ابو الزلف ، صاحب ومؤسس جريدة القدس وأحد أصحاب دار الجهاد الصحافية قبل العام ١٩٦٧ ، فاننا نستذكر ما قدمه الراحل الكبير في ميدان الكد والجهد والعطاء والمقارعة لمدة ستين عاما ، عاصر خلالها قضية وطنه وشعبه لحظة بلحظة ،وكان من خلال تفرده بالعمل الصحفي المدافع والمناصر لهذه القضية العادلة ، قضية اللاجئين والمقيمين ، فسلط الأضواء عبر منابر الصحيفة على مجمل التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بقوالب مهنية جريئة، وفتح صفحات (القدس) للأخبار والتحليلات الإخبارية والتحقيقات الصحفية والمقالات والزوايا والملاحق على اختلاف أنواعها ، وعاش تطورات العصر الذي تربع فيه على عرش الصحافة المحلية ، وواكب تقدم الصحافة منذ البدايات حتى ثورة الإعلام الألكتروني ( الإنترنت) وهي الثورة الرابعة من ثورات الإعلام بعد (المطبوعات) (ووكالات الانباء)( والمذياع والتلفزيون) ، وكان صمام الامن والأمان ، فسهر الليل ولم ينم النهار ، ليحافظ على المنبر حافلا بالاخبار ، تاركا خلفه مبادئ العمل الصحفي باقتدار ، فارتقت (القدس) إلى مصاف الصحف الخالدة ، ذات الإسهامات الكبرى في حياة الشعوب والبشرية ، ولم يكن غريبا ان تتصدر (القدس ) ، الفلسطينيات من الصحف ..بقيادة المعلم المحنك محمود أبو الزلف رحمه الله ..


في ذكرى الرحيل لأحد رموز وجهابذة الأمة ،نقف اليوم بمشاعر حزينة وعميقة ، في موقع رثاء لرجل تحلى بطاقات وقدرات إبداعية ، وصفات قيادية ، حقق من خلالها نجاحا تلو الاخر ، وارتقى إلى قمة المجد الصحفي بتضحيته وعطائه الكبير ، فوجد نفسه في المرتبة الاولى بين علماء ومفكري وقادة المشروع الصحفي الفلسطيني ، الذي صبغه محمود أبو الزلف بالتفرد والتميز والإبداع ، ونفذه بنموذج من الاصرار على مواجهة كل التحديات في كل الميادين ومختلف الاوقات ، لتختزن في الذاكرة مؤلفات ومراجع أرشيفية، كتبت بمداد الذهب والمجد والافتخار والاعتزاز ، وعلى مراحل وعهود وعصور ، كان فيها الراحل الكبير بمثابة مدرسة فكرية كبرى ، متكاملة الزوايا والأبعاد ، وموسوعة صحفية شاملة ، طبعت بصماتها المؤثرة في مسيرة الأعلام والصحافة وتركت آثارها العميقة في كل مكان.


ونحن نسبر غور وعمق التجربة الصحفية للراحل الكبير ، لا بد من إطلالة على البدايات عندما ولد معلمنا في الخامس من نيسان للعام ١٩٢٤ في عروس البحر الأبيض المتوسط يافا ، لعائلة أصيلة توارثت المجد وكانت سفن والده الراحل قاسم أبو الزلف قد رست في مرافئ البحر، لتنجب الإنسان الذي حمل على عاتقه الحفاظ على مجد عائلته فولد كغيره من ابناء فلسطين الذين عاشوا تحت نير الانتداب وتحملوا قصص العذاب ..


كانت والدته الفاضلة بهية بركات قد أنجبته في المرتبة الخامسة بين سبعة من الاخوة والاخوات ، وسعدت مدرسة المعارف في شارع النزهة بيافا باستقبال الطالب النشيط الذي بدت عليه معالم الذكاء ، وكان مولعا بالدراسة والسباحة والمشي والتمتع بمنظر الشاطئ الخلاب ، فنجح بتفوق كبير ونظم له والده حفلا دعا اليه الاقارب والمعارف والأصدقاء .


سافر محمود ابو الزلف إلى بيروت ، ودرس في الجامعة الاميركية العلوم السياسية ثم التحق بجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة وعاد إلى فلسطين ليعمل في صحيفة ( الدفاع) التي كان يمتلكها انذاك الصحفي إبراهيم الشنطي احد أقارب والدته .


انتقل إلى القدس عام ١٩٤٩ وواصل العمل في الصحيفة نفسها التي انتقلت هي الأخرى إلى القدس وتعرف في العاصمة على زميليه محمود يعيش وسليم الشريف حيث أنشأ ثلاثتهم صحيفة ( الجهاد) عام ١٩٥٣ فأصبحت بفضل نشاطهم وإخلاصهم من أفضل صحف البلاد .


واختار محمود ابو الزلف شريكة حياته بعد ان جمعهما لقاء في محل للتصوير بشارع الزهراء في العام ١٩٥٥ ، فاقترن بها بعد عام واحد ، وانجبا الدكتور مروان ووليد وزياد وجينا ( رحمها الله) وكارولين ، وعاشت العائلة السعيدة ونعمت بالاستقرار والنجاح بفضل حنكة وسياسة الزوج والوالد ، الذي قطف ثمار النجاح في عمله الصحفي الذي واظب عليه بحرص واتقان واخلاص كبير ، حتى فوجئ الجميع بنكسة حزيران عام ١٩٦٧ ، وكانت المأساة عندما صادر الاحتلال بيته الذي كان مؤجرا للقنصلية السورية في الشيخ جراح ، فزادت الجراح واغلقت الصحف وفي مقدمتها الجهاد ، فكان عليه ان يبدأ من جديد ، وهنا تظهر معادن الرجال الحقيقيين ، وعند الشدائد لا يتسلل اليأس لنفوسهم ، فأصدر ( القدس) التي رأت النور لأول مرة في اذار من العام ١٩٦٧ باندماج ( الجهاد والدفاع) ، ولتعود القدس بحلتها الجديدة في فلسطين اعتبارا من تشرين الثاني للعام ١٩٦٨ ، لتطل علينا كما تخرج العنقاء من تحت الرماد ، بصبر ورباطة جأش محررها وصاحب امتيازها المسؤول الذي حقق نجاحا إعلاميا عجزت عنه الحكومات ، ولا زالت (القدس ) على عهده وبعد رحيله حتى يومنا هذا .


كان أول حديث لصحيفة (القدس) تحت عنوان رأي (القدس )ولماذا (القدس ) كتبه الاستاذ محمود ابو الزلف في الحادي والعشرين من اذار ١٩٦٧ وخاطب فيه القارئ العزيز وقال : انه بالرغم من الأزمة الوجدانية الاقرب إلى صراع الولاءات ، إلا اننا نحب الصحف التي بنيناها وعملنا فيها وعشنا معها سنوات حلوة ومرة ، ولقد تجاوبنا مع نداء الدولة المخلص في تصويب كيان الصحافة الأردنية ، فتنادينا ( جهادا) ( ودفاعا) للاندماج في مؤسسة صحفية واحدة ، تنصب فيها طاقات (الجهاد) وطاقات (الدفاع ) لنخرج وليدا جديدا يغدو عملاقا بعد قليل وهو ( القدس) .


قدم ابو الزلف ( القدس) تحت عنوان : ( القدس ) بماذا تؤمن وماذا تريد ؟


واجاب انها وليدة ايمان بالرسالة الصحفية ، لذا فانها صحيفة رأي وكلمة ، وانها ستسلك طريق الرصانة والمنطق والجرأة في الحق .


وعدد صاحب الامتياز والمحرر المسؤول اهداف الصحيفة المؤمنة بالعروبة الخالصة وبالحق العربي في فلسطين ، وهي الصحيفة التي تدافع عن النهج الديمقراطي والحرية والتطور ، المؤمنة بتراث العرب الحضاري والروحي والثقافي ، ضمانا لوحدتهم وانها جريدة الأردن وفلسطين وكل العرب ، التي تشعر بثقل هذه المسؤولية ، واعدا ان تبذل كل جهد وكل طاقة لخدمة هذه الغايات وعهدا ان تكون عند حسن ظن القراء.


وكما كتب الحديث الاول في إطلالة (القدس ) الرسمية ، أعاد استاذنا صياغة حديث (القدس) بعد عودة الصحيفة للصدور في التاسع عشر من تشرين الثاني للعام ١٩٦٨ وقال فيه ان جريدة القدس تعود بعد غياب منذ الخامس من حزيران للعام ١٩٦٧ ، وتطرق لمدى الحرية الفكرية والصحفية التي تتمتع بها الصحيفة ، وخطتها القومية العربية الرائدة وعدم قبولها للاحتلال وإيمانها بالتوجه الواعي والهادف لتكون منبرا حرا للأقلام النزيهة ، مؤمنة بنضال الكلمة الصادقة الحرة .


وهكذا كانت البدايات وانطلقت (القدس ) في عهدة صاحبة الجلالة وبقيادة مصممها الكبير الذي حرص على تقديم كل ما هو جديد صبيحة كل يوم للمواطنين والقراء الاعزاء ، بعد ان يطمئن على الطبعة اليومية من خلال سهره حتى الفجر ، لتخرج الجريدة بأبهى صورة وأجمل حلة ..


تجاوزت صحيفة (القدس) كل التحديات والصعوبات والمنغصات والإجراءات في زمن الاحتلال ، ومضت السنين والأشهر والايام والليالي والساعات ، حتى الألفية الجديدة، لتعاصر الجريدة الأكبر في فلسطين ، تكنولوجيا العصر فانخرطت بها ، وانفتحت على كل مساراتها وظلت حتى يومنا هذا منبرا شامخا يقدم كل ما هو حديث وعصري وجذاب …


كان مقر الصحيفة في شارع صلاح الدين بالقدس وفي عطروت ديوانا سياسيا واجتماعيا ، استضاف من خلاله الراحل الكبير معظم شخصيات المجتمع الوطنية والسياسية والاجتماعية والدينية على اختلاف أنواعها ، وكان له نظرة ثاقبة ولم يترك المؤثرات تنال من خططه وإطاره العام الذي وضعه كنهج ودستور للصحيفة، وكان الباب مشرعا على مصراعيه لاستقبال المواطنين والشكاوى والانتقادات ، وفتح قلبه لكل الموظفين والعاملين ، وعاملهم بالعاطفة والتقدير من جهة وبالصرامة والصلابة للحفاظ على النظام والالتزام حرصا على جودة الاخراج والإنتاج، فكانت ولازالت الصحيفة نبراسا يحتذى في كل المحافل ، والفضل بذلك لصاحب الفكر المتميز والذاكرة العبقرية الراحل الكبير محمود ابو الزلف.


وفي يوم الاثنين الثامن والعشرين من اذار للعام ٢٠٠٥ ، اختار الله سبحانه وتعالى معلمنا استاذنا محمود ابو الزلف إلى جواره ، فرحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء والتضحيات والإنجازات، استمرت لحوالي ٦٠ عاما ، ووري جثمانه الطاهر الثرى في مقبرة المجاهدين في شارع صلاح الدين ، وعز فراقه على القيادات والشخصيات والمعارف والأصدقاء والمحبين وكل من عاصره طيلة هذه السنين، فنعاه فخامة الرئيس محمود عباس والوزراء والهيئات والمؤسسات والفصائل والتنظيمات والشخصيات ، وكتب في رحيله وذكراه على مدى السنوات التي رحل فيها عن القدس، أدباء ومفكرون وصحفيون ونشطاء ، من مختلف التوجهات ، فعددوا المناقب والصفات ، وركزوا على المعطيات والإنجازات، التي حققها طيلة حياته التي أفناها في خدمة الرسالة الإعلامية الفلسطينية .


ترجل الفارس وذهب الأمل الباسل ورحل صاحب القلم ، لتتبعثر الكلمات وتصبح حائرة في وصف عملاق الصحافة المحلية.


، وتبقى القدس المدينة ، (والقدس ) الجريدة تحمل اسمه تحكي لكل الاجيال ، جيلا بعد جيل عن فارس حمل اللواء وجند الأقلام ، وأنار سماء القدس في ليل الظلام ، لتبقى شاهدة على ذكرى ، من رصف الدروب لكل الطامعين بالوصول إلى مرتبة سيد الصحافة الفلسطينية ..


في ذكرى الرحيل نقف اليوم مجددا ومن على منبر (القدس ) لنترحم باسم اسرة الراحل وباسم الاسرة الإعلامية الفلسطينية عموما وجريدة (القدس ) خصوصا على هذا الفقد الكبير .


لقد غيب الموت أستاذنا ومعلمنا الحبيب الغالي جسدا، لكنه سيبقى في قلوبنا ما بقينا على قيد هذه الحياة، ولن ننساه، وسيظل بأعماله ومآثره وسيرته نبراساً وقدوة لنا،


وعهدا ان نبقى الاوفياء لمسيرته لنوردها للاحق الذي سيسير على النهج السابق.


نم مرتاح البال والضمير، فقد أديت الامانة وقمت بدورك على أحسن وجه، والرجال الصادقون أمثالك لا يموتون .

دلالات

شارك برأيك

تبقى ( القدس) منارة لكل الصحف

المزيد في أقلام وأراء

نتانياهو وفيتو صفقة التبادل

حديث القدس

هل ما زالت ألمانيا تكره الحروب؟

وليد نصار

مكاسب استراتيجية للفلسطينيين

حمادة فراعنة

دورنا في مواجهة المعادلات الجديدة في ظل عجز أمريكا وأزمة إسرائيل

مروان أميل طوباسي

حماس وطوفان الأقصى.. والإكراهات الجيوسياسية

ماجد إبراهيم

رفح ثغر الشعب و حبل الصرة مع الأمة

حمدي فراج

رفح بين الصفقة والحرب

حديث القدس

رحيل الطبيب والوجيه الفاضل د. جواد رشدي سنقرط

معتصم الاشهب

الاسرى الفلسطينيون في مواجهة “مخططات هندسة القهر” الإسرائيلية

اسعد عبد الرحمن

هل سيجتاح نتنياهو رفح؟

المحامي أحمد العبيدي

الدولة العميقة في أمريكا تقرر مواصلة الحروب

راسم عبيدات

رفح في مرمى العاصفة

حديث القدس

الدعم الأميركي والعقوبات على «نيتساح يهودا»

إميل أمين

مسارات الحرب في مرحلتها الثالثة

معين الطاهر

وحدة الضفتين أنموذج للفكر الوحدوي الهاشمي

كريستين حنا نصر

لماذا يقف الأردن مع فلسطين

حمادة فراعنة

"عقوبات" أمريكية مع 26 مليار دعم.. تبرئة للمجرمين وتمويه الشراكة بالإبادة

وسام رفيدي

"التخطيط للمستقبل مع قائد السعدي : استراتيجيات التغلب على الأزمات المالية للشركات الناشئة"

قائد السعدي

عالم صامت امام عدوان إسرائيل على كل معالم الحياة البشرية ..!!

حديث القدس

كأن هذه الامة استمرأت الهزائم و لم تعد تحب الانتصار

حمدي فراج

أسعار العملات

السّبت 27 أبريل 2024 8:23 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.81

شراء 3.79

يورو / شيكل

بيع 4.07

شراء 4.05

دينار / شيكل

بيع 5.41

شراء 5.39

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%73

%22

%5

(مجموع المصوتين 167)

القدس حالة الطقس