أقلام وأراء

الأحد 27 أغسطس 2023 10:07 صباحًا - بتوقيت القدس

التطبيع من زوايا مختلفة

في موضوع التطبيع، نحن أمام حالة "فقدان للوعي"، يبدو فيها العرب أنهم غير واعين لأبعاده، يتعاملون مع الأمر باستخفاف وسذاجة، وفي أحسن الأحوال ليس بالجدية الكافية.


فالتطبيع، وقبل أن يكون موقفا من اسرائيل، هو موقف من الذات. موقف من الأمة، من وجودها، من ماضيها وحاضرها، والأهم ... من مستقبلها، ومن أمنها "القومي". انه الذهاب بها من التبعية الى مزيد من التبعية. بل انه في النهاية الحاق بإسرائيل ومشروعها، الذي على ما يبدو، أنه ليس مفهوما البتة لمن "يهمهم الأمر".


التطبيع هو "إسقاط" للمنطقة استراتيجيا. انه الوقوف المعلن، و"المفتخر به" في صف الأعداء. بل انه تعبير عجيب عن "حالة" غريبة لفهم الأعداء والأصدقاء، لا ينطبق عليها قوانين الطبيعة ولا قوانين المنطق. فبالتطبيع صالحنا اسرائيل وأضعنا أمننا القومي... تم قتل المريض لتجنب المرض... نجحت العملية ومات المريض، كما يقال.


أطراف التطبيع أربعة؛ أمريكا (والغرب) وإسرائيل اللذان جهزا المشهد، والفلسطينيون والعرب اللذان قاما بدور "البطولة" فيه. سنحاول فيما يلي تسليط بعض الضوء على ذلك.
التطبيع أمريكيا
تكاد امريكا أن تكون أكثر حرصا على التطبيع من اسرائيل نفسها، فهي بالفعل عرابته التي لا ينافسها أحد. هذا أمر طبيعي اذ أنها تقوم بتوظيفه استراتيجيا في صراعها مع الصين ومع روسيا، وفي معركتها من أجل الحفاظ على "تسيدها" على العالم. كان الرئيس بايدن واضحا في هذا المجال عندما قال أن الولايات المتحدة لن تترك المنطقة في فراغ "تملؤه الصين وايران".


اقتضت الحاجة لتفرغ امريكا للصراع مع الصين وروسيا الى "تسليم" الشرق الاوسط، الذي يعتبر ساحة مهمة، يجب الابقاء على السيطرة الغربية عليها بسبب موقعها الاستراتيجي أولا، وثرواتها خاصة الغازية والنفطية ثانيا، الى "وكيل" موثوق به، وليس عليه أي شكل من اشكال التحفظ، لكي "يرعى" المنطقة ويديرها بالنيابة وبالشكل المطلوب، وأفضل من يقوم بدور الوكيل "الحصري" للغرب في الإقليم هو، وبلا منازع، اسرائيل.


وحتى تكون عملية "تسليم" المنطقة للوكيل بنجاح، لا بد من علاقة طبيعية بينه وبين دولها. هنا كان على الولايات المتحدة أن تستخدم نفوذها لدى أنظمة تلك الدول، إغراء أو ضغطا، من أجل الإسراع في عملية التطبيع، فوعدت النظام السوداني الجديد بازالته من قائمة الإرهاب ومساعدته ماليا، وضغطت بأشكال مختلفة على آخرين، مثلما حدث في الضغط على بعض الحكومات للمشاركة في جنازة رابين على أعلى المستويات، كما أفاد بذلك الشيخ حمد، رئيس الوزراء القطري في حينه.


تهيئة ساحة الإقليم لقبول التطبيع مع إسرائيل، ذلك الذي جعلته الولايات المتحدة "مقياسا" للعلاقة معها، تطلبت الكثير من الجهد الأمريكي والاسرائيلي، تمثل بالعمل على إضعاف بلدان المنطقة خاصة الوازنة منها، سواء من خلال "الربيع العربي"، أو الحروب الأهلية، أو التهديدات الاسرائيلية المباشرة، أو من خلال نظام العقوبات والضغوط الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة سواء على الكيانات أو الأفراد.


التطبيع اسرائيليا
تسعى اسرائيل الى السيطرة الكاملة على فلسطين، والهيمنة على العالم العربي والشرق إجمالا. هي بذلك تحقق أهداف مشروعها الذي عبر عنه بوضوح بن غوريون، عندما قال بأن غاية اسرائيل هي تحقيق الصهيونية وليس السلام، وكذلك تقوم "بواجبها" كأداة لتحقيق أهداف المشروع الامبريالي الغربي.


يتطلب ذلك تطبيع علاقاتها مع البلدان العربية، اذ يصعب عليها "العمل" في ظل مقاطعة دول الإقليم لها. فهي بالتطبيع تفكك عزلتها السياسية والاقتصادية وكذلك الاخلاقية، وتمتلك هامش حركة أكبر في كل المجالات، وتندمج أكثر في الأسواق العالمية، والأهم من ذلك كله، وانسجاما مباشرا مع دورها، تجعل الآخرين جزءا من منظومتها الأمنية، حيث المهمة الأساسية لها كدولة وكمشروع.


لا يمكن لإسرائيل أن تقوم بدورها كوكيل ناجع في المنطقة، بدون علاقات طبيعية مع دولها ومع شعوبها إن أمكن. والتطبيع بالنسبة لها يعني صهينة المنطقة، وإنشاء "إمبراطورية" صهيونية هي عبارة عن جبهة إسرائيلية عربية واسلامية، تتولى هي قيادتها، وتعمل كضابط "ايقاع" لها، لتقوم بمهماتها الاستراتيجية، عالميا ضد الصين وروسيا، واقليميا ضد إيران، ومحليا ضد أي طرف يقوم بمقاومة مشروعها.


تستخدم اسرائيل كل الطرق من أجل تطبيع سلس ودائم، السياسة والاقتصاد والاعلام والسيكولوجيا ومؤخرا الدين، الذي تتوج بالسلام الإبراهيمي. هي بذلك تؤكد قيادتها للإقليم دينيا، وتكتسب قدسية تطمح النفاذ بواسطتها الى الشعوب التي شكل الدين خلال فترة طويلة، خط دفاعها ربما "الأقوى" أمام الاستعمار والصهيونية.


وبمجرد الموافقة "المبدئية" على التطبيع من قبل أية دولة عربية أو إسلامية، تأخذ اسرائيل "مجدها" في اللعبة التي تتقنها، "التفنن" في الابتزاز والتذاكي، واللعب على الأطراف المختلفة من أجل تحقيق أقصى المكاسب من ذلك. على سبيل المثال، كان اعتراف اسرائيل بمغربية الصحراء هو "الإنجاز" الذي اعتبرته المغرب الأهم في تطبيعها معها، لكن اسرائيل ماطلت الى الحد الأقصى قبل أن تقوم بذلك الاعتراف، وذلك من أجل "اجبار" المغرب على استضافة مؤتمر "منتدى النقب"، وبتقديري أيضا، للعمل على إمكانية "بيع" ذلك للجزائر وليس للمغرب.


التطبيع عربيا
بداية لا بد من الإقرار، أن الأنظمة العربية، كانت تفضل أن يبقى تطبيعها مع إسرائيل "سريا"، إلا في حالة السادات، الذي بلغ درجة من الوهم والمرض- اذا تعاملنا مع الأمر سيكولوجيا- ،واعتبر أن "زيارته" للقدس، على طريقة اسلام عمر، فتحا مبينا وشجاعة ومصدرا للفخر. أما الآخرين - مع بعض الاستثناءات - فقد تعاملوا مع ذلك كأمر مخجل بشكل أو بآخر.
ومع أن اسرائيل تجني معظم اهدافها من التطبيع قبل الإعلان عنه، إلا أن "الإشهار"، وما يواكبه من مراسم وطقوس، يبقى مطلبا اسرائيليا اساسيا، اذ أنها بذلك تنقله من وضعية الحرام الى الحلال، وإسرائيل كما هو معروف "لا تدخل على حرام". لذلك يؤتى بالمطبع "والمطبع به" الى البيت الأبيض، وبرعاية الرئيس الأمريكي، ومشاركة السلف من المطبعين، ووسائل الإعلام العالمية، للإعلان عن ذلك.


لا يدشن ذلك المشهد حالة "مختلفة" في العلاقات العربية الاسرائيلية، بل يظهر حالة "الأمة" على حقيقتها، فاقدة لهويتها، ومغيبة لمشروعها، وضحية لضعفها، وسعيدة بهزيمتها.


يشكل التطبيع ضربة قاصمة للأمن القومي العربي، الذي جوهره أن العدو الاستراتيجي الوحيد للأمة هو اسرائيل. فبالتطبيع تضع الأمة نفسها في صف عدوها، وتشكل معه وتحت قيادته، جبهة لتنفيذ المهام الأمريكية في الصراعات الدولية.


تحقق اسرائيل من التطبيع ما تريد، في حين أن الدول العربية لا تكاد تحقق أي شيء، لأنها لا تملك أية استراتيجيا حتى في موضوع التطبيع، فيبدو تطبيعها عشوائيا وفرديا وارتجاليا و"ساذجا".


لم تحقق أية دولة عربية قامت بالتطبيع مع إسرائيل، هدفا يمكن أن يوصف بالاستراتيجي. بل وربما لم يكن لها أي مطلب من هذا القبيل؛ لم تطلب تلك الدول على سبيل المثال من إسرائيل أن توضح حدودها التي ينبغي الاعتراف بها، فتم الاعتراف بها في حدود غامضة متروك لموازين القوى و"للدبابة الاسرائيلية" تحديدها. ولم تطلب ولو مجرد طلب، نزع الترسانة النووية الاسرائيلية، بل بادر بعضها للاعراب عن رغبته في امتلاك برنامج نووي، لن يكون إلا عديم المعنى عسكريا في ظل التخلي عن الأمن القومي، واقتصاديا بسبب التوفر الهائل لمصادر الطاقة الأخرى.


لقد رفضت اسرائيل "المبادرة العربية للسلام" التي تمثل عرضا عربيا للتطبيع، ليس فقط لأن تلك المبادرة تطالب بإقامة دولة فلسطينية مقابل التطبيع "الجماعي" معها، بل لأنها لا ترضى بأي عمل جماعي عربي، حتى لو كان ذلك هو التطبيع معها. تريدهم فرادى لأن ذلك يتطابق مع استراتيجيتها في التفريق بينهم، والانفراد بالعادة مريح أكثر ومربح أكثر.


القبول بالتطبيع "الفردي" مع إسرائيل، يتجاوز القبول به من "حيث المبدأ"، الى القبول به حسب الطريقة الاسرائيلية، شكلا ومضمونا. فهو عمليا أكثر من تطبيع. انه تحالف سياسي واقتصادي وأمني، يتطلب تنكر الأنظمة التام لارادة شعوبها، والامتثال الواضح للإرادة الأمريكية والاسرائيلية، والتنكر للقضية الفلسطينية، والانخراط في المشروع الاسرائيلي في "شيطنة" الفلسطينيين تمهيدا للاجهاز على قضيتهم.


التطبيع فلسطينيا
جاء التطبيع الفلسطيني نتيجة للانخراط الكامل في الوهم، أو على الأقل، الرهان غير المحسوب على إمكانية تحقيق السلام والحصول على الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، والناجم عن غياب الفهم الحقيقي باسرائيل والمشروع الصهيوني، فكان نتيجته ارتباط متزايد بالواقع الاسرائيلي، وانخراط متزايد أيضا بالمشروع الغربي- الصهيوني في المنطقة.


راهن الفلسطينيون على التأثير في المجتمع الاسرائيلي من خلال التطبيع. كان رهانا فاشلا، اذ تسارع توجه ذلك المجتمع نحو مزيد من الصهيونية والامعان في الاحتلال، واستمر "ترويض" الفلسطينيين للتماهي مع إسرائيل ومشروعها، واستخدم "التعاطي" الفلسطيني مع إسرائيل "كمحلل.. مشرعن " للتطبيع العربي معها، حيث سحب ذلك الرادع "الاخلاقي" الذي كان يشعر بعض العرب بفداحة التطبيع.


وظف الاسرائيليون تطبيع الفلسطينيين معهم، واتفاقات اوسلو اجمالا، كجسر للوصول إلى البلدان العربية، حيث "ارتاح" الفلسطينيون لهذا الدور الذي اعتقدوا أنه يعطيهم "وزنا" في عملية سلام شامل في المنطقة، لكن الاسرائيليين سرعان ما التفوا على ذلك الجسر وبنوا جسورهم المباشرة نحو العرب، وانتقلت إسرائيل لتكون هي الجسر الذي يربطهم ببعض العرب وبالولايات المتحدة أيضا.


كان "الاعتراف" الاسرائيلي بمنظمة التحرير كممثل شرعي للفلسطينيين الهدف الأكبر والاسمى للقيادة الفلسطينية، وبعد تعنت لسنوات إزاء ذلك، ادرك الاسرائيليون أن بامكانهم تحقيق الكثير من اهدافهم مقابل منح الفلسطينيين ذلك "الإنجاز"، بعد أن تم افراغه من كل مضامينه الوطنية.


حاول الفلسطينيون من خلال التطبيع إثبات رغبتهم الجدية بالسلام، لكنهم في واقع الأمر، قطعوا صلاتهم بكل أسباب قوتهم، ولم يبق أمامهم إلا الامعان في السير وراء وهم السلام الاسرائيلي.


التطبيع، وبغض النظر عن النوايا، بدا كمظهر من مظاهر الضعف الفلسطيني، ذلك الضعف الذي على الفلسطينيين أن يعملوا على تغييره، إن أرادوا أن يعودوا بقضيتهم الى وضعها الطبيعي، كجامع وكمنارة لقوى التحرر في الإقليم وربما في العالم.

دلالات

شارك برأيك

التطبيع من زوايا مختلفة

المزيد في أقلام وأراء

في انتظار الموت المؤجل ...

يونس العموري

القرار في غزة والجواب في القاهرة

حديث القدس

قمع حراك الجامعات الأمريكية.. أهداف ومعان

فوزي علي السمهوري

تناقض أم تكامل الخطابين: العسكري والسياسي

سماح خليفة

الحكومة, الانتخابات والوحدة: ما هي استراتيجية الخروج؟

د. دلال صائب عريقات

تحديات أمام الأحزاب

حمادة فراعنة

الشارع الإسرائيلي يطالب بوقف الحرب ودفع الثمن

حديث القدس

الحجر بكى من وجع غزة

ريما محمد زنادة

الحرب على " ظهور الماعز"

عطية الجبارين

حصار إسرائيل وأميركا في الأمم المتّحدة

عائشة البصري

الهدنة وقرار اجتياح رفح

بهاء رحال

الاستحقاق الانتخابي في موعده

حمادة فراعنة

غزة ... والحرب العالمية الثالثة ... والعرب يتفرجون !!!

ابراهيم دعيبس

الهجوم الإسرائيلي على رفح محكومٌ بالفشل

محسن محمد صالح

نتانياهو وفيتو صفقة التبادل

حديث القدس

هل ما زالت ألمانيا تكره الحروب؟

وليد نصار

مكاسب استراتيجية للفلسطينيين

حمادة فراعنة

دورنا في مواجهة المعادلات الجديدة في ظل عجز أمريكا وأزمة إسرائيل

مروان أميل طوباسي

حماس وطوفان الأقصى.. والإكراهات الجيوسياسية

ماجد إبراهيم

رفح ثغر الشعب و حبل الصرة مع الأمة

حمدي فراج

أسعار العملات

الإثنين 29 أبريل 2024 9:46 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.8

شراء 3.79

دينار / شيكل

بيع 5.37

شراء 5.35

يورو / شيكل

بيع 4.1

شراء 4.04

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%73

%23

%4

(مجموع المصوتين 180)

القدس حالة الطقس