القراءة مقاومة.... وفلسطين وإرثها حاضرين في كل تفاصيل البرنامج
المعركة الحقيقة لن تحسمها النيران بل قدرتنا على صناعة المعرفة وحماية هويتنا
المعرفة ليست حكرًا على أحد وهي أداة حيوية لتطوير الفرد والمجتمع حتى في أصعب الظروف
في لحظات الفقدان الأليمة كنا ننظر إلى الكتب كرفاق صامتين يمنحوننا القوة ولم نسمح للدمار أن يقتل أحلامنا
الشاشات غزت حياتنا لكننا نرى فيها فرصة لا تهديداً فبدلاً من محاربة التكنولوجيا حولناها حليفاً للمعرفة
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون شريكاً استراتيجياً لا منافساً مع تحملنا مسؤولياتنا الكاملة في اختيار الكتب
نصنع حراكاً رقمياً يُثبت أن الأثر الثقافي لا يرتبط بحبر الورق بل بقدرة الفكرة على اختراق الحدود حتى لو عبر شاشات الهواتف
رؤيتنا النهائية هي صنع "عالم موازٍ" للمعرفة جدرانه مبنية بالكتب وطرقاته ممهدة بالحوار وحدائقه مزروعة بالأفكار
تحول برنامج "خير جليس" الإذاعي والذي تبثه من رام الله إذاعة راية "أف أم" إلى منصة جذب معرفية عبر تلخيص ١٠٠٠ كتاب متنوع يمتد من السياسة إلى البيئة وما بينهما. "القدس" تلتقي صاحب فكرة "خير جليس" ومعده ومقدمه د. صبري صيدم.
كبسولة معرفية تقدم خلاصة كتاب في دقائق
* دكتور صبري، مبروك وصولكم إلى الألفية الأولى من حلقات "خير جليس"، ماذا تقولون في تعريف البرنامج لمن لا يعرفه؟
* شكراً لك. "خير جليس" هو كبسولة معرفية يومية تقدم خلاصة كتاب في دقائق معدودة عبر أثير "راية أف أم"، ووسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى قناة "جليس الزمان" على اليوتيوب التي تعرض فيها جميع الحلقات، والتي يُمكن أيضًا متابعتها عبر الموقع الرسمي لـ"راية أف أم". الفكرة تعتمد على تبسيط المعرفة وجعلها في متناول الجميع، خاصة في زمن تسارعت فيه وتيرة الحياة وأصبحت القراءة العميقة ضحية للانشغالات.
نحرص على تنويع المواضيع لتشمل كتبًا في مجالات متنوعة: كالهندسة والفلسفة وعلوم الإرادة والزراعة وعلوم الدين والسياسة، وغيرها من القطاعات التي تلامس شغف الجمهور وتلبي احتياجاتهم الفكرية والعملية. هذا التنوع ليس مجرد استعراض للمعارف، بل محاولة لبناء جسر بين التخصصات المختلفة، وإثبات أن المعرفة مترابطة ولا يمكن فصلها عن واقع الناس وتحدياتهم.
أما قناة "جليس الزمان" على اليوتيوب، فجاءت كامتداد استراتيجي لضمان انتشار أوسع للبرنامج، حيث تُنشر الحلقات بشكلٍ يومي إلى جانب أرشيف متكامل يسمح للمتابعين بالعودة إلى أي حلقة في أي وقت. هذا التكامل بين الإذاعة التقليدية والمنصات الرقمية يُعزز وصولنا إلى شرائح مختلفة، خاصة الأجيال الشابة التي تعتمد بشكلٍ كبير على المحتوى المرئي والمتوفر على الإنترنت.
القاسم المشترك في كل ما نقدمه هو إيماننا بأن المعرفة ليست حكرًا على أحد، وأنها أداة حيوية لتطوير الفرد والمجتمع، حتى في أصعب الظروف. نحن نعمل كفريق واحد لتحويل الكتب من رفوفٍ مغبرة إلى حوارات يومية حية، تثري العقل والروح."
التحديات تتحول إلى فرص.. "عام كامل للكتب"
* كيف ولدت هذه الفكرة؟ ومتى بدأت، وما تأثير المحيط عليها؟
* الفكرة لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت حلماً راودني لسنوات؛ فدائماً ما آمنت بأن القراءة يجب أن تكون جسراً بين الناس والمعرفة، لا أن تبقى الكتب حبيسة الأرفف أو النخب. لكن الظروف المحيطة – خاصة ضغوط الحياة اليومية – كانت تعيق تحويل هذا الحلم إلى واقع.
مع انتشار جائحة كورونا، وتحديداً مع بداية الحجر الصحي، تحولت التحديات إلى فرص. فبينما كان العالم يتوقف، وجدتُ نفسي أمام مساحة زمنية غير مسبوقة للقراءة، وهو ما كنتُ أخطط له منذ سنوات تحت عنوان "عام كامل للكتب". لكنني سرعان ما أدركت أن الاحتفاظ بهذه الثراءات المعرفية لنفسي هو إجحاف بحق الآخرين، خاصة في ظل ظروف استثنائية يعيشها الناس: حروبٌ تتصاعد، وأوبئةٌ تفرض عزلةً قسرية، وقلقٌ وجودي يلف الجميع.
هنا، قررتُ أن أتحول من قارئ منعزل إلى وسيط معرفي. طرحت الفكرة على أسرة "راية أف أم"، والتي لاقت ترحيباً فورياً، ليس لأنها مجرد برنامج إذاعي، بل لأنها كانت إجابة على سؤال ملحّ: كيف نحول المعاناة إلى منصة لإشعال الأمل؟ بدأنا التنفيذ مع دخول الجائحة عامها الأول، متحدين كل التوقعات.
أما تأثير المحيط... فالحروب لم تتوقف، والواقع الفلسطيني كان – ولا يزال – يعيش أقسى مراحله، لكننا آمنّا بأن الاستمرار في إنتاج المعرفة هو شكل من أشكال المقاومة. حتى في لحظات الفقدان الأليمة، كنا ننظر إلى الكتب كرفاق صامتين يمنحوننا القوة. لم نسمح للدمار أن يقتل أحلامنا، بل حولناه إلى وقود لاستكمال البث، تماماً كما فعلنا مع برنامج "ومضة" في غزة ذات يوم، حين قررنا الاستمرار رغم القصف.
القرار الجماعي بالاستمرار – رغم كل شيء – هو ما جعل "خير جليس" ليس مجرد برنامج، بل ظاهرة ثقافية تثبت أن الأفكار لا تموت طالما هناك أناس يؤمنون بها.
"أمة اقرأ لا تقرأ"
* كثيراً ما نسمع أن "أمة اقرأ لا تقرأ"، فما الذي يدفعكم للاستمرار؟
د. صبري صيدم: (بابتسامة هادئة) دعني أوضح شيئاً: نحن لا ننكر وجود إشكالية في واقع القراءة، فالإحصائيات المُقلقة التي تشير إليها ليست سراً، لكننا نرفض أن نكون جزءاً من ثقافة اليأس. نعم، الشاشات غزت حياتنا، لكننا في "خير جليس" نرى فيها فرصة لا تهديداً. فبدلاً من محاربة التكنولوجيا، اخترنا أن نُحوّلها إلى حليفٍ للمعرفة؛ فقناتنا على اليوتيوب ليست منصةً لعرض الحلقات فحسب، بل مساحة لخلق تواصلٍ تفاعلي مع جيلٍ يعيش نصف حياته في العالم الرقمي.
الاستمرار واجبٌ لأن المشكلة ليست في الناس، بل في كيفية تقديم المعرفة لهم. لو أن الكتب التقليدية لم تعد تجذبهم، فلنأتي بالكتب إليهم عبر الوسائل التي يتفاعلون معها. هذا ليس تنازلاً، بل تحولٌ ضروري. أما تلك الكتب الخمسة التي أصدرناها، فهي تأكيدٌ على أننا لا نريد للمعرفة أن تبقى حبيسة اللحظة الإذاعية، بل أن تتحول إلى إرثٍ ملموس يُورَّث للأجيال القادمة.
الحقيقة التي أدركناها هي أن "أمة اقرأ" لا تزال تقرأ، لكن بأدوات العصر؛ فالمتابع الذي يشغل حلقتنا على اليوتيوب أثناء ذهابه إلى العمل، أو يقتني كتاباً ورقياً بعد سماع ملخصه، هو قارئٌ بمعنى ما. قد لا يكون قارئاً بالصورة الكلاسيكية، لكنه يُمارس فعل القراءة بطريقته الخاصة.
نحن نستمر لأننا نرى بصيصاً في عيون الشباب الذين يرسلون إلينا رسائلَ يقولون فيها: "هذه الدقائق جعلتني أقرأ كتاباً لأول مرة منذ سنوات"، أو لأننا نؤمن بأن تغيير الثقافة يحتاج إلى صبرٍ طويل، وليس إلى انتحارٍ معرفي مُستعجل.
الذكاء الاصطناعي ضرورة
* نلاحظ أن "خير جليس" استخدم الذكاء الاصطناعي مؤخراً، كيف دخل هذا العنصر على خطتكم؟
* (بتفاؤل) دخول الذكاء الاصطناعي إلى عالمنا لم يكن ترفاً تقنياً، بل ضرورة فرضتها طبيعة المرحلة. فمع توسع قاعدة جمهورنا وازدياد الطلب على تنويع الكتب المطروحة – من الفلسفة إلى التكنولوجيا، ومن التاريخ إلى العلوم التطبيقية – وجدنا أنفسنا أمام تحدٍّ كبير: كيف نلخّص مئات الصفحات بدقةٍ وسرعة، دون أن نفقد الجوهر الإنساني للبرنامج؟ هنا أدركنا أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون شريكاً استراتيجياً، لا منافساً، مع تحملنا مسؤولياتنا الكاملة في اختيار الكتب وعناوينها وما تناقشه هذه الكتب ليكون امتداداً فكرياً للظرف الزمني الآني أحياناً، وما يتوافق منها مع قيمنا الإنسانية والروحانية، وعليه
بدأنا توظيف الذكاء الاصطناعي في مرحلتين:
1. مرحلة التحليل الأولي: حيث يقوم الذكاء الاصطناعي بقراءة الكتاب كاملاً، وتحديد الأفكار الرئيسية، وحتى رصد السياقات التاريخية أو الثقافية المرتبطة به.
2. مرحلة التلخيص الذكي: التي تحوّل تلك البيانات إلى نصٍ مكثف، لكنه يظل خاضعاً لمراجعة فريقنا الذي يضيف لمساته الإبداعية، مثل الربط بين أفكار الكتاب والواقع الفلسطيني أو العالمي، أو إدراج أمثلة حية من مجتمعنا.
لكن – وهذا مهم – الروح الإنسانية تظل العصا السحرية التي تحوّل التلخيص الجاف إلى قصة مشوّقة. فالذكاء الاصطناعي لا يستطيع أن يلتقط لحظةَ إلهامٍ مر بها المؤلف، أو أن يربط بين فصلٍ من الكتاب ومعاناة أمٍّ فلسطينية في مخيمٍ للاجئين. هذا العمل لا يزال حتى الآن من إعمال العقل والقلب البشريين.
ولا أخفي عليك أننا واجهنا شكوكاً في البداية؛ فالبعض رأى في استخدام التكنولوجيا خيانةً لرسالة البرنامج الثقافية أو الأمانة العلمية، لكننا سرعان ما أثبتنا أن التوازن ممكن. فمثلاً، نشير في نهاية حلقاتنا إلى أن هذه الحلقات مدعّمة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وأشرنا إلى ذلك في عديد المقابلات ونفخر دائماً بأننا من رواد الدمج الذكي للتقنيات الحديثة والأصالة والأمانة.
الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن العقل البشري
* ما الهدف من إصداركم للكتب الخمسة المرتبطة بالبرنامج والمدعمة بتقنيات الذكاء الاصطناعي؟
* (بحماس) هذه الكتب الخمسة هي ليست مجرد إصدارات رقمية – فهي متاحةٌ إلكترونياً الآن كخطوة أولى – بل هي بيانٌ مُعلنٌ عن فلسفة "خير جليس" في تحدي ثقافة الاستهلاك السريع. لطالما آمنّا أن المعرفة يجب أن تترك أثراً ملموساً، حتى لو كان ذلك عبر الشاشات أولاً. لذا، اخترنا مواضيعَ استراتيجيةً تلامس جروح أمتنا وأسئلتها المصيرية، من تشويه التاريخ إلى تغول التكنولوجيا على الهوية، ومن صراع الطبقات إلى تخليق أجيال قادرة على مواجهة المستقبل.
الذكاء الاصطناعي دخل هنا كـ"رفيق درب" رقمي، ليس كبديلٍ عن العقل البشري. ففي مرحلة إعداد الكتب، استخدمنا تقنيات التحليل الآلي لفرز آلاف المصادر الإلكترونية وتحديد الاتجاهات الفكرية السائدة حول كل موضوع، لكنّ التوليف النهائي بين الأفكار وإضافة السياق الإنساني – خاصة ما يتعلق بتجربتنا الفلسطينية والعربية – بقي مهمةً بشريةً بحتة.
هذه الكتب الإلكترونية هي هديةٌ منّا إلى الجمهور، بوصولنا إلى الحلقة الألف في البرنامج وهي نتاج لهذا الكم المعرفي والثقافي الكبير الذي تعلمناه من الألف حلقة الأولى، وقد نُشرت مجاناً لضمان وصولها لأوسع شريحة ممكنة. اختيارنا لمواضيع مثل " كيف صنعت الطبقية عالمنا؟" أو "الشعر في زمن النفاق" ليس صدفةً، بل هو محاولةٌ لكسر معتقدات في الفكر العربي عبر أدوات العصر. القارئ الذي يسمع الملخص عبر "راية أف أم" ثم يحمّل الكتاب بنقرة واحدة، وهو الجسر المنشود بين المعرفة الرقمية والوعي المجتمعي.
نحن نصنع حراكاً رقمياً يُثبت أن الأثر الثقافي لا يرتبط بحبر الورق، بل بقدرة الفكرة على اختراق الحدود – حتى لو كانت عبر شاشات الهواتف.
تعميم الفائدة عبر شراكاتٍ استراتيجية
* كيف تخططون لتطوير البرنامج مستقبلاً؟
* (بتطلُّع) طموحنا لا يعرف حدوداً! نرى المستقبل فرصةً لتحويل "خير جليس" إلى منصةٍ معرفيةٍ عالمية تصل إلى الألفية الثانية والثالثة وما بعدهما، ليس عبر زيادة الأرقام فحسب، بل بخلق نموذجٍ ثقافيٍ جديد. نعمل على توظيف التكنولوجيا بأقصى طاقاتها، مثل تحويل الملخصات النصية إلى عوالمَ مرئيةٍ تفاعلية باستخدام الذكاء الاصطناعي المُولد والواقع المُعزَّز، بل واستكشاف تقنيات الواقع الافتراضي التي تسمح للمستمع بأن "يعيش" أحداث الكتاب كأنه جزءٌ منها.
نسعى أيضاً إلى تعميم الفائدة عبر شراكاتٍ استراتيجية مع منصات ومؤسسات محلية وعالمية كالمكتبات والجامعات ومراكز الثقافة، لدمج محتوانا في الحياة الثقافية والمبادرات المجتمعية. إلى جانب ذلك، سنسعى لنطور تطبيقاً خاصاً يجمع بين الحلقات المسموعة والمرئية، والكتب الإلكترونية،، مع توصيات ذكية تتناسب مع اهتمامات كل مستخدم.
الأهم من ذلك، أننا نريد للجمهور أن يصبح شريكاً فعلياً في الإنتاج؛ فمبادرة "خير جليس – الإصدار المجتمعي" ستفتح الباب للمهتمين للمساهمة في اختيار الكتب وكتابة الملخصات وإنتاج الحلقات، بل وإطلاق مسابقاتٍ دوريةٍ لاكتشاف مواهب جديدة. كما نخطط لتعميم النموذج عبر شبكة من المكتبات العربية، حيث تُخصص زوايا للاستماع والقراءة المجانية، مع أداة تفاعلية تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحويل الكتب إلى خطط عملية تُناسب حياة الناس اليومية.
رؤيتنا النهائية هي صنع "عالم موازٍ" للمعرفة، جدرانه مبنية بالكتب، وطرقاته ممهدة بالحوار، وحدائقه مزروعة بالأفكار التي تتجاوز الحدود. قد يبدو هذا حلماً، لكننا نؤمن أن كل إنجار كبير يبدأ بخطوة، ونحن مستعدون لنسير ألف خطوة معاً!
حين نقرأ ونكافح.. نعيش
* لو خُيّرتم بشكر فريق أو أشخاص، من سيكونون؟
* (بصوتٍ يعتريه الامتنان) كل حبة عرقٍ سقطتْ خلال رحلتنا تستحقُّ التقدير!
الشكر لله والامتنان الأساس لشعبنا البطل والذي أكرمنا جميعا بإرادة أسطورية ونبع وفير من الأصرار خاصة الأكرم منّا جميعاً، الآلاف من الأطفال والنساء الذين قضوا تحت الركام وبقايا الخيام وما اعتقدوا أنه سيحمي يوماً أجسادهم الضعيفة. هؤلاء عززوا إرادة البقاء مشفوعة برسالة من هم خلف القضبان وشعب من المثابرين المقدامين.
هذه المقابلة مدعّمة بتقنيات الذكاء الاصطناعي
شارك برأيك
د. صبري صيدم لـ"القدس": "خير جليس".. ألف كتاب تم تلخيصها وإتاحتها للجميع في أحلك الظروف